كثيراً ما تساءل الناس عن علّة عنايتنا الشديدة باللّغة حين نعرض لقراءة نصّ من النصوص الأدبيّة: شعرياً كان أو سردياً؛ ذلك بأنّ اللغة المعجميّة في النقد الغربي، لا يكاد المعلّق، أو الناقد، منهم يتعرض لها، أو يحفِل بها حفولاً كثيراً، لأنّ عامة المستعمِلين، ومن باب أولى الشعراء والكتّاب، يُتقنون لغتهم المعجميّة إتقاناً كاملاً يجعلهم يكتبون بها دون ارتكاب أيّ خطإ نحويّ أو لغويّ إلاّ نادراً جدّاً، وذلك لرُقِيّ التعليم في مؤسساتهم التعليميّة من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة. أما عندنا نحن، فإنّ عامّة الناس معرَّضون لارتكاب الخطإ، ومفترَضون بالقصور في معرفة اللغة العربيّة التي هي بحر زاخر ـ من المستحيل على أيّ كاتب معاصر يزعم للناس أنّه يعرفها معرفة دقيقة لا تُبقي ولا تذَر ـ إما ببعض قواعدها، وإما بعدم التمييز الدقيق بين بعض معاني ألفاظها التي تختلف في كثير من الأطوار بمجرد اختلاف ضمٍّ لحرفٍ بدل فتْحِه، أو فتحِه بدل ضمّه، أو كسره بدل فتحه؛ وإما بالقصور عن معرفة أصول بلاغتها وتوسّع العرب الأوائل في استعمالاتها، من أجل ذلك، ترانا نحن في معظم كتاباتنا النقدية والتحليليّة أن نتوقّف لدى هذا المستوى من النص الأدبيّ، فنعمد إلى ألفاظ النص المطروح للقراءة لنفحَصها فحْصاً: هل هي سليمة معجميّاً، وصحيحة نحويّاً؟ ولكن دون أن نتّخذ من ذلك ركناً مركزيّاً في عمليّة القراءة النقديّة التي قد تجعل من النص الشعريّ الواقع في بعض الأخطاء النحوية أو اللغويّة القليلة، أمثلَ من نصٍّ شعريّ آخر لا يشتمل على أيّ خطأٍ أو هَنَة من حيث ذلك، ولكنه يكون أقربَ إلى النظميّة الرتيبة الثقيلة، وأبعد ما يكون عن الشعريّة الطافحة؛ وذلك بعُرْيه من أي تصوير فني، أو اشتماله على أيّ إدهاش يَلْفت قارئه لَفْتاً؛ فلا تُجْديه، حينئذ، سلامةُ لغته فتيلاً! ومع ذلك، فهذا لا يشفع للشعراء أن يرتكبوه، فمِن الأَولى أن تكون لغة النص الشعريّ سليمةً حتى تكتملَ الصورة الفنية المثلى للنص الشعري المطروح للمتلقّين. ولو شبّهنا مفردات اللغة، غير السليمة نحويا ومعجميا في نص من النصوص الأدبيّة، بأجزاء محرّك يؤدي وظيفة ميكانيكيّة معيّنة، وأنّ هذا المحرك يستحيل عليه أداء وظيفته ما لم تسلَم أجزاءُ قِطعه التي يتكامل عملُ بعضِها مع بعضها الآخر؛ أو بِبِنَى فاسدة أو متهرّئة بالبِلى وقع التساهل في وضْعها في بنيان سيكون في هذه الحال معرَّضا للانهيار حتماً مقضيّاً: إذن، لرأينا أن النص الأدبيّ كذلك لا ينبغي له أن يتكوّن إلاّ من ألفاظ سليمة، ومفردات نقيّة صحيحة، فيجمع الشاعر بين تحقيق الغايتين: إبداعيّة النصّ وجماليّته، وصيرورتِه حجّةً لقارئه أو متلقّيه في الوقت ذاته. فلقد جنَى على عبقريّة العربية أنها لغة في غاية الدّقّة، وأنّ معظم مستعمليها هم في غاية اللاّمبالاة بتحقيق مفرداتها...