تتجلى منزلة الغناء في الثقافة العربية بالأساس في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني. وهو كتاب ألفه الأصفهاني في القرن الرابع الهجري وأهداه إلى الخليفة الشهير هارون الرشيد. يقول عنه ابن خلدون: “ولعَمْرِي إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يُعدَل به كتاب في ذلك، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأَنـَّى له بها”. والكتاب يكشف ولع الخلفاء والناس أجمعين بالغناء. لذلك افتتح الأصفهاني كتابه بذكر “المائة صوت المختارة للرشيد الذي أمر إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء باختيارها له من الغناء، ثم رفعت إلى الواثق بالله، فأمر إسحاق بن إبراهيم أن يختار له منها ما رأى أنه أفضل مما كان اختير متقدما”. وقد حوى كتاب الأغاني تراجم لحوالي 300 شاعر وزهاء 60 من المغنيين والمغنيات. احتوى الكتاب أيضا على مصطلحات موسيقية عديدة تخصّ طريقة العزف واللحن والأدوار. وقد توسّع العديد من العارفين بالمصطلحات الموسيقية في شرح ما ورد من رموز في كتاب “الأغاني” ومنهم مثلا أبو أحمد يحي بن علي بن المنجم في كتابه “رسالة ابن المنجم في الموسيقى وكشف رموز كتاب الأغاني”. ويجزم ابن خلدون بأن الاهتمام الشديد بكتاب أبي الفرج الأصفهاني يرجع إلى وظيفة الأغنية عند العرب فلم تكن الأغنية مقتصرة على الإطراب والترفيه والتسلية وإنما كانت تنهض بدور ثقافي مهمّ وهو تعلّم الأدب والعناية بالشعر حفاظا على الذات الثقافية العربية. كتب ابن خلدون في “المقدمة”: “وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه، وكان الكتّاب والفضلاء من الخواصّ في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه. فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة”. يعني هذا إذن أن الموسيقى قد اضطلعت بدور هام في الحفاظ على الهوية العربية وفي تأثيث الذاكرة الجماعية بالكنوز الأدبية التي تزخر بها الثقافة العربية. كانت الموسيقى ترويجا للأدب والشعر، وكانت استدراجا للناس كي يكتشفوا ما في الأدب العربي والشعر العربي من قيم جمالية وفكرية. ولقد كان من الطبيعي أن يؤدي الانشغال بالموسيقى والإيمان بدورها الثقافي الهام إلى تمجيد المغنين وتبجيلهم وإعطائهم منزلة مرموقة في السلم الاجتماعي. احتفى الخلفاء وأولي الأمر من أمراء وسلاطين وولاة بالمغنين وفنّهم، وأكرموهم ونزلوهم منزلة رفيعة. ومن أشهر المغنين الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس إبراهيم بن ميسون الموصلي. فقد كان كاتبا وشاعرا وموسيقيا فذّا. ويعدّ من أشهر المغنين والملحنين في العصر العباسي. ويحكى أنه ألّف أكثر من 900 لحن. وتذكر كتب التاريخ أنه اتخذ من بيته مدرسة لتعليم الموسيقى فتتلمذ على يديه العديد من المغنين والموسيقيين.