إنّ الفنّ، في حقيقة أمره، مفهوم فلسفيّ، لا أدبيّ؛ فهو يُحيل على شبكة من القيم المتشعّبة، ويرمي إلى مَعانٍ تتّخذ سبيلَ تأويلِها تبَعاً لِمَا رُكّب في المتحدِّث، أو الدارس، أو القارئ، من اكتسابٍ معرفيّ وفكريّ لدى الأوّل، واستعداد فطريّ وقدرة على التّثاقُف لدى الآخِر. ولعلّ من أجل ذلك لم يُعْرَفْ هذا اللّفظُ لدى العرب تحت المصطلح المتداوَل به اليوم إلاّ في العصر الحديث؛ ذلك بأنّ “الفنّ” بالمفهوم الأدبيّ كان متداوَلاً بينهم، فيما يبدو، تحت مصطلح “الصّناعة” وما في حكمها. فالفنّ في وضع العربيّة القديمة هو الذهاب كلّ مذهب في الشيء والبراعة فيه، وهو أيضاً التنوّع والتّعدّد من قولهم “رعَينا فنون النّبات، وأصبنا فنون الأموال”، (لسان العرب). فلمّا جاء النّاس في العهود الحديثة أطلقوا الفنّ على ما يتفنّن فيه المغنِّي من ألحان وأصوات، والرسّام مِن مَشاهدَ وألوانٍ، والراقص من حركةٍ وإيقاع، والشاعر من براعة وتصوير وإدهاش... والحقّ أنّ مفهوم الفنّ، المستعمَل بكثرة في اللّغة العربيّة الحديثة، جاء عن تأثّر، فيما يبدو، باللّغات الغربيّة ومنها الفرنسيّة من وجهة، وبالثقافة الغربيّة العائدة إلى القرون الوسطى من وجهة أخرى؛ فالغربيّون هم الذين كانوا مولَعين باصطناع هذا المفهوم لمعانٍ ثقافيّة ومعرفيّة كثيرة (خارج إطار المعاني البدويّة المرتبطة بحمار الوحش وحركته وركْضِه في الفيافي والقفار، لدى قدماء العرب) حتّى إنّهم كانوا يُطْلقون في القرون الوسطى على مجموعة من العلوم الضّروريّة معرفتُها، فكانوا يتدارسونها على وجه الوجوب في كلّيات الفلسفة، مُطْلِقين عليها “الفنون السبعة”. وشيئاً فشيئاً، بدأ الغربيّون يتخلّصون من غُلُواءِ مفهوم الفنّ ففصَلوا العلوم بعضَها عن بعضٍ، فلم يعُدِ النحو فنّاً بل عِلماً، كما لم يعُدِ الفَلَك فنّاً بل علماً هو أيضاً، وهلمّ جرّاً. إنّ شعريّة الفنّ لا يمكن أن تُتَصوَّر إلاّ على أساس أنّها عَلاقة نقديّة بين الفنّ واللّغة. أي لا توجد لغة لفن الرسم، ولا لفنّ الموسيقى، على الرّغم منّ أنّ الرسّامين والموسيقيّين لهم، هم أيضاً، لغتهم؛ غير أنّ ذلك من قبيل اللغة السِّيمَائيّة: البصَريّة والسَّمْعيّة. فالعَلاقة النقديّة تعني أنّ إبداعاً ما، هو إبداعُ فنٍّ حين يكتسب فعاليّةَ نقلِ الخطاب الذي يثيره. ويتولّد عن هذا التّصوّر، بالمقابل، أنّ الخِطابات تنقُل فكرة الفنّ، كما تنقُل فكرةَ إبداع الفنّ. وإذن، فليست شعريّة الفنّ إلاّ بناءً للفنّ والشعريّات جميعاً. وأمّا الفنّ في مفهومه الحديث، وبعد انفصاله عن سائر العلوم في الثقافة الغربيّة خصوصاً، فإنّه اغتدى يعني كلّ إنتاج جماليّ بواسطة إبداع كائنٍ واعٍ. والحقّ أنّ الفنّ أمسى مُضادّاً للعلم، فكلّ ما هو فنّ فليس بعلم، وكلّ ما هو عِلمٌ فليس بفنّ. ويختلف الفنّ عن العلم بكون الأوّل يُتذوّق بالذَّوق الوجداني، لا الحسيّ طبعاً؛ في حين أنّ العلم يُبرهَن عليه بالبَراهين العقليّة، فيُدرَك بالعقل. ولا سواءٌ ثقافةٌ جميلةٌ تُدْرَك بالوِجْدان، وعلمٌ دقيقٌ يُدْرَك بالتّعلّم والاكتساب.