أهداني الصديق الرائع الدكتور علي بن تميم كتابه: “السرد والظاهرة الدراميّة” (دراسة في التجليات الدرامية للسرد العربيّ القديم)، منذ زمن. وقد وضعت هذا الكتاب الجميلَ بين الكتب الجديدة التي أنْتَوِي قراءتَها، ومن ثَمّ الكتابة عنها دراسات تعريفيّة تليق بمكانتها الأدبيّة، ولو على هونٍ ما. وقد ظَلْتُ أسترِق النظر إلى الكتاب وأمنّي النفس بالكتابة عنه، كلّما أَويتُ إلى مكتبي، ولكنْ بعد قراءته قراءةً معمّقةً، للإفادة منه أوّلاً، ثمّ لِنَقْلِ هذه الإفادة إلى قارئ “الاتحاد الثقافي”، لكنّ ذلك كلَّه لم يَتُِحْ لنا... وها أنا اليوم أزمعتُ تدبيجَ كلماتٍ قِصاراً عن هذا المؤلَّف البديع، آملاً أن أكتب عنه دراسة معمّقة مطوَّلةً مستقبَلاً. يقع هذا الكتاب في ثلاثِمائةِ صفحةٍ من القطع الكبير، والحرْف الصغير. وقد عوّل الباحث، الدكتور علي بن تميم، في تدبيجه على زُهاءِ ثلاثمائة مصدرٍ ومرجِعٍ، وهو أمر استثنائيّ في توسيع التوثيق، وتدقيق التحقيق. ويشتمل الكتاب على أربعة فصول هي: الأداء الدراميّ: تحديد المفاهيم في السياقات العربيّة؛ والتجليات الدراميّة في السرد القديم؛ والأداء الدراميّ في السرد القديم؛ وأخيراً التلقّي الدراميّ في السرد القديم. وإذا كان كلُّ فصلٍ، من هذه الأربعة، قميناً بأن يُتوقَّفَ لديه، للإفادة منه؛ فإنّ الفصل الرابع قد يكون أهمَّ فصول هذا الكتاب أو أجملَها على الأقل، فقد تدرّج إليه المؤلّف ليتناول دَور المتلقّي العربيّ في العمليّة السرديّة التي ما كان لها لِتَتمَّ، في سيرة التراث العربيّ القديم، المعوّل في سرديّاته على المظهر الشفويّ، إلاّ بوجود متلقّين، وتحديد دورهم في تلقّي الرسالة السرديّة على اختلاف أنواعها وأشكالها. وكان هذا التلقّي غالباً ما يقع من خيال المتلقّي موقع الاستغراب طوراً، والإعجاب طوراً، ومجرّد الاهتمام العاديّ طوراً آخر. وكان الوضع الاجتماعيّ الذي تنهض علاقاته على طقوس الشفويّ، والتحلّق من حول الحاكي، في الأغلب، يظاهر على ازدهار السرد، ومن ثَمّ على توثيق العلاقة وتجسيرها بين السارد الذي كان يلقي إلى متلقّيه بالحكاية أو الخبر أو الأسطورة إلقاء مباشراً، وفي لغة بسيطة يفهمها فيتجاوب معها، ويتأثّر بها. ولقد ظلّ ازدهار السرد العربيّ قائماً بعنفوان إلى القرن الثاني الهجريّ حيث كان هناك قاصُّون محترفون يتّخذون لهم مجالسَ في المساجدِ، فكان الناس يُقْبلون على حَلَقِ القاصّين كما كانوا يُقْبلون على حَلَقِ العلماء ورواة الحديث، حذْوَ النعل بالنّعل. وقد يدلّ بعض ذلك على الدَّور الثقافيّ والاجتماعيّ والجماليّ الذي لعبه السرد العربيّ القديم في إخصاب الحياة الثقافيّة، ومَظْهَرَةِ الحياة الاجتماعيّة معاً... كلّ أولئك قضايا وردت في كتاب الدكتور علي بن تميم، وإن كنّا لم نستطع الإشارةَ إلاّ إلى قليلٍ ممّا ورد منها في هذا المؤلَّف الجميل. فلْيَعْذِرْني الصديق علي بن تميم على التقصير في تقديم كتابه الجميل، ولْيَسْعَ القرّاءُ، ممن لم يقرءوا بعدُ هذا الكتاب، إلى قراءته وخَلاَهُمْ ذَمٌّ، فإنّهم، لا ريب، واجدون فيه ما ينير عقولهم، ويُمْتع قلوبهم.