توزع المجتمع الأندلسي بين نخبة قليلة من الوعاظ والزهاد، الذين تمسكوا بمذهب الإمام مالك المحافظ على التقاليد النبوية الصافية في الفقه والسلوك، وبين أغلبية طاغية من المولدين الذين امتزجت أعراقهم وتقاليدهم بالبيئات القوطية الرومية، واختلطت أنسابهم وثقافتهم بهذا المزاج الأندلسي المرح، الذي يطرب للموسيقى، ويحتفي بالشراب، ويعشق الجمال في الطبيعة والبشر ولا يجد غضاضة في الجمع بين هذه السمات وما يطيب له أن يأخذ به من تعاليم الدين. وكان الشعراء هم الذين يقومون بدور الفنون كلها، فهم يرسمون بالكلمات ويرقصون بالألحان، ويغنون الموشحات باعتبارها لوحات عريضة للحياة، فيقول ابن شرف الذي نعرض لنماذج من أعماله الأنيقة متحرشا بالنخبة الصالحة المحافظة: “عقارب الأصداغ/ في السوسن الغصن/ تسبي تقي من لاذ/ بالفقه والوعظ من قبل أن تعدو/ عيناك لم أحسب أن تخضع الأسد/ لشادن ربرب ظبي له خد/ مغضض مذهب وأغيد ورد / في صدغه عقرب رقة زهر الباع/ في جسمه البض/ وقوة الفولاذ/ في قلبه الفظ” أما العقارب فهن خصلات الشعر الناعمة وهي ترقد على صدغ الحسناوات كأنها تتمرغ بين طيات أوراق السوسن العاطرة فتسبي قلوب من اعتصم بالزهد وتفتن من لاذ بالفتنة والوعظ. ثم يروي الشاعر قصته مع معشوقه الذي يجمع بين المتناقضات، فقبل أن تغلبه عيناه الساحرتان لم يكن يحسب أن الأسد الضاري يمكن أن يخضع لظبي غرير يتميز بخده المغضض المذهب، إلى جانب تثنيه الناعم الأغيد وعقرب صدغه الآسر، إذ يجمع بين رقة الزهر اليانع الغض في الجسد البض وقوة الفولاذ في القلب الفظ: “قد كنت في أمن/ حتى سبا ديني بدر على غصن/ في كبث يبرين له الرضى مني/ وليس يرضيني يا معرضا عني/ أسرفت في هوني حتى متى يا باغ/ تغضى ولا ترضى/ يا قاسيا لواذ/ عهدك في حفظ” يعبر الشاعر عن تجربته حيث كان في مأمن من الفتنة، حتى أسره هذا المعشوق المثالي، فهو بدر على غصن زرع في كثيب من الرمل، صورة شبه كاريكاتيرية لمبالغتها في تمثيل حلاوة الوجه بالقمر وضمور الخصر بالغصن وامتلاء الأرداف بكثيب الرمل، وهي مفارقات تضج بالتناقض مثل أنه راض به لكن الحبيب لا يرضيه، وأنه مقبل عليه وهو معرض عنه ومسرف في هونه حتى يرجوه أن يكف عن إعراضه لأنه حافظ العهد. “مهفهف بدع/ أصبحت مغلاي به قلبي له درع/ قد رث في حبه أصابني صدع/ مذلج في عتبه السهد والدمع حظي في قربه فالعين لا ينساغ/ لها جني الغمض/ والدمع في إغذاذ/ ناهيك من حظ” فنجد أوصافا أندلسية باذخة الرفاهية، حيث يصبح القلب درعا واقيا يتصدع بالعتب والهجران.