نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل قائل هذين البيتين هو أبو تمام الذي سبق المتنبي بأن نثر الحكم في شعره، والحكمة هي خلاصة كلامية يختزل فيها قائلها مئات من التجارب والخبرات التي يختزنها الشاعر، ويخرجها في شكل بيت شعري، يتكون من كلمات قليلة، ولكنها دالة على معان لا حصر لها· والحكمة التي طرحها أبو تمام تلفت انتباهنا إلى تعلقنا بالماضي في حالات كثيرة، ومن ثم تقديس الحب الأول والقبلة الأولى والبيت الأول، فكلها أشياء ارتبطت بالماضي الذي يزداد جمالا، خصوصا إذا ما بدت الأيام أو الأعوام اللاحقة على نحو يتزايد قبحا مع تتابع الزمن وكرّ الأعوام· هكذا، تتخلق أسطورة البداية التي نرد إليها كل جمال مفتقد في عالمنا الذي نشقى فيه، ونعاني من ورطاته وسوءاته، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن النقيض، حيث البراءة المفقودة، والجمال الضائع، والفردوس الذي لا تبهت صورته في الخيال، بل على النقيض يزيده القدم جمالا فوق جماله، وقداسة فوق قداسته· وهذا هو دأب البشر فى كل زمان ومكان، يكون حنينهم إلى الماضي، وتخيلهم لما كان عليه، على حسب ما يقاسونه في حاضرهم، خصوصا حين تدفع كوارث الحاضر إلى الهرب منه، والبحث عن بديل له· وليس هناك أفضل من ماض متخيل، يتفنن الخيال في تزيينه للوعي، كي يزيده فتنة به، وفي المقابل، يتفنن في تقبيح صور الحاضر، كي يزيد من دوافع الهرب منه· ولقد صوّر الأدباء والفلاسفة نقطة الابتداء التي تقع في الماضي بأنها الرحم الذي نود لو نعود إليه هربا من قسوة حياتنا الحاضرة، وسعيا وراء بديل آمن، أشبه برحم الأم الذي يحمي الجنين إلى أن يتم اكتماله، فيطلقه إلى حياة مجهولة مخيفة، يقابلها المولود بالبكاء، كأنه يعرف ما سوف يلاقيه فيها