العفو فضيلة لا ينالها إلا من استقام إيمانه وقويت عزيمته، وهو في رمضان أمر مهم ومطلوب، كما أن العفو عند المقدرة من الشجاعة الأدبية التي يتحلى بها المسلم، والخصومة من الأسباب التي تحجب الرحمة وتؤخر قبول الأعمال الصالحة، ويقول الله سبحانه وتعالى: (إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)، «سورة النساء: الآية 149». ويقول عز وجل: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، «سورة آل عمران: الآية 134».
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا نبي الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول قال: «تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني». وبين العلماء أن العفو هو التغاضي عن الذنب والصفح عن المخطئ، وهو صفة من صفات المحسنين، وخلق من أخلاق الكرام، ولا يقدر عليه إلا ذوو العزم والمروءة، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بالعفو ويعرض عن الجاهلين، فقال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، «سورة الأعراف: الآية 199).
والعفو من الأخلاق الحميدة التي يرغب بها الشارع، لأنها توصل إلى التقوى، قال جلّ جلاله: (... وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ...). وبين القرآن الكريم أن العداوات قد تنال من الناس فيما بينهم، فطلب منهم الصفح والعفو، فقال سبحانه وتعالى: (... وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
والعفو في رمضان أهم من غيره، لأنه شهر الصفح وطلب العفو من الله تعالى، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين القائمين أن يقولوا في دعائهم ليلة القدر: «اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني».
وثواب العفو عظيم، قال عز وجل: (...فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
وعلى المسلم أن يتخلق بالعفو والصفح، ويحذر من الهجر والخصومة، لأن الهجر مظنة لحجب الأعمال أو حبسها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: «إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم، إلا متهاجرين، يقول: دعهما حتى يصطلحا».
الاستقامة:
الاستقامة هي لزوم طاعة الله تعالى واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولزوم الاستقامة، أعظم كرامة في الدنيا، والإيمان والاستقامة أساس الدين، ومصدر كل خير في الدنيا والآخرة، وقال الله سبحانه وتعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، «سورة هود: الآية 112»، وقال جلّ جلاله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ...)، «سورة فصلت: الآية 6».
وفي الحديث عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم»، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه»..
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: «هذا سبيل الله» ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...)، «سورة الأنعام: الآية 153». والاستقامة كلمة تجمع أصول هذا الدين، وتعني أن يلزم المرء المنهج المستقيم، والطريق القويم الذي به تكمل المحاسن، وتزكو النفوس، وتسمو الأخلاق وترتقي بالأفراد والشعوب. وتتعلق الاستقامة بالأقوال والأفعال والجنان، فالاستقامة باللسان تعني المداومة على كلمة التوحيد وقول الحق، والنصح لعباد الله، وترك الأقوال القبيحة كالغيبة والنميمة ونحو ذلك مما لا يرضاه الله من الأقوال، والاستقامة بالأفعال، تعني المداومة على العبادات والطاعات ومحاسن الأخلاق، وأما الاستقامة بالجنان فتعني المداومة على صدق الإرادة والعزيمة على الخير، وطهارة النفس من الكبر والعجب والرياء. ومتى استولت الاستقامة على أحاسيس المرء ومشاعره، طبعته على حسن الأخلاق والترفع عن ذميم الأفعال، وحسن التعامل مع الآخرين، فتستقر المجتمعات وتزدهر علومها ومعارفها ويعلو شأنها. إن الاستقامة على أمر الله عز وجل نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، لكن تحقيقها يحتاج إلى جد واجتهاد، وصبر واحتساب، ومراقبة لله تعالى في السر والعلن، ومخالفة للنفس والهوى والشيطان، والقيام عند فرائض الله تعالى بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، مع الدعاء والتضرع إليه سبحانه.