تحقيق - أمير الألفي
«القرش الأبيض.. لليوم الأسود» مَثَل تربّينا عليه ورسخ في أذهاننا منذ الصغر، إلا أن هذا المثل لم يعد صالحاً هذه الأيام، فالاقتصاد الحديث له قول آخر، حيث بات الادخار في النقود التقليدية خسارة كبيرة للبعض، إذ فقدت النقود خلال الأعوام العشرين الماضية قيمتها مرات عدة، ما تسبب في فقدان المدخرات الراكدة للأفراد والشعوب.
والمتهم الأول في هذه القضية هو التضخم، فالتضخم دون تعقيد المصطلحات الاقتصادية هو ضياع قيمة الأوراق النقدية، فالممتلكات والأصول على الأغلب تتسم بالثبات إلا أن الغلاء الذي يصيبها ما هو إلا فقدان لقيمة النقود التي تمتلكها.
وخلال الأعوام الـ20 الماضية، فقد الدولار، على سبيل المثال، أكثر من 87.5 % من قيمته بسبب التضخم، إذ كانت قيمة الـ100 دولار خلال عام 2000 تشتري نحو 12.5 جرام من الذهب، إلا أن هذا المبلغ خلال عامنا الجاري لا يمكنه شراء أكثر من 1.5 جرام فقط، وهو ما يوضح ببساطة أين ذهبت الأموال، وهذا ما أصاب ملك الأوراق النقدية الذي تعتمد عليه أغلب العملات في العالم لتقييم قيمتها الشرائية. ولفهم الموقف، هناك خطأ شائع يقع فيه الكثيرون، وهو أننا لا نعرف الفرق ما بين المال والنقود. فالعملة الأميركية مثلاً نقود. وهذا لأنها في حد ذاتها ليست لها قيمة، فهي مجرد ورقة يتكلف إنتاجها سنتاً أو اثنين من أجل طباعتها. أما المال، فهو حافظ للثروة وله قيمة كبيرة، ومن أهم أمثال المال الذهب والفضة. فهذه المعادن الثمينة تعتبر ذات قيمة عالية. والعملة تستمد قوتها من المال الذي يستخدم غطاءً نقدياً لها. وهذا ما تعارف عليه العالم تاريخياً، لكن بعد تخلّي الولايات المتحدة عن هذا المبدأ في سبعينيات القرن الماضي، أصبح الدولار يطبع من دون غطاء ذهبي، وبات مجرد نقود غير مدعومة بأي قيمة مالية حقيقية. فقط يعتمد على القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، وثقة المستخدمين والمستثمرين في قيمة الدولار العالمية. ومن هنا بدأت رحلات هبوط وصعود للعملات على مستوى العالم.

مؤشرات التضخم
تشير توقعات البنك الدولي الأخيرة إلى أن العالم بات على أبواب أزمة ركود تضخمي، وارتفاع معدلات التضخم العالمية خلال الأعوام الماضية إلى مستويات مرتفعة بلغت نحو 8.7% خلال عام 2022، ونحو 6.9% خلال 2023. 
فنزويلا، نموذج صارخ لضياع ثروات الشعوب، فقد سجلت أعلى معدل تضخم في العالم، حيث بلغت نسبة التضخم خلال عام 2018 أرقاماً فلكية بلغت 65 ألفاً بالمئة، حتى بات الأفراد لا يقدرون على حمل مليارات النقود لشراء وجبة واحدة.
وفقاً لأحدث الأرقام الصادرة عن صندوق النقد الدولي والتي نُشرت في أكتوبر الماضي، سجل التضخم في فنزويلا نحو 360% في 2023، وهي السنة العاشرة على التوالي التي يكون فيها معدل التضخم من أعلى المعدلات على هذا الكوكب. 
وجاءت في المرتبة الثانية زيمبابوي التي بلغت نسبة التضخم فيها 193% خلال 2022 وارتفعت إلى 315% خلال 2023، وسجل السودان المركز الثالث بنحو 139% خلال عام 2022، وارتفع إلى 256% خلال العام الماضي، وجاءت الأرجنتين رابعاً بنسبة تضخم 72% في 2022 و122% في 2023، ثم تركيا التي سجلت 72% خلال 2022 منخفضاً خلال العام الماضي إلى 51%.

انهيار القيمة
بالعودة إلى العملات، أظهرت البيانات أن أكبر العملات انخفاضاً خلال الأعوام الماضية كانت البوليفار الفنزويلي الذي فقد 100% من قيمته منذ عام 2016، إذ تراجع مقابل الدولار من 0.15 بوليفار عام 2014 إلى 0.00000027 بوليفار مقابل الدولار خلال العام الجاري.
وانخفضت عملة لبنان بحوالي 89.9% خلال عام 2023 مقابل الدولار، تلاها البيزو الأرجنتيني بانخفاض 78.1%
وكانت العملة اللبنانية تعد من أقوى 10 عملات في العالم بين 1960 و1970، بحيث لم يتجاوز سعر الدولار الواحد 3 ليرات لبنانية، لينتهي بها المطاف بانهيار دراماتيكي وصل إلى نحو 89000 ليرة للدولار الواحد خلال 2023.
وبعدهما جاءت النيرة النيجيرية التي تتجه نحو تسجيل أسوأ أداء سنوي منذ عام 1999، إذ تراجعت 55% خلال العام الحالي لتتداول قرب 1043 مقابل الدولار في السوق الرسمي.

تعامل الدول
تباين أداء الدول في التعامل مع الآثار السلبية للتضخم، فهناك دول لم تكترث، للآثار المدمرة على الاقتصاد ومدخرات الأفراد المالية وقدرتهم الشرائية، وهو ما كلفها الكثير من الخسائر وتراجع النمو وضياع للأموال والمقدرات، وفي المقابل تعاملت دول عدة مع التضخم بشكل فعال، وقدمت حلولاً واقعية استطاعت من خلالها أن تكبح جماح هذا المؤشر الذي يمثل كابوساً لأي اقتصاد يبحث عن النمو والتطور، ويسعى للحفاظ على مكتسباته، عبر قرارات عدة رئيسة، منها رفع الفائدة، وزيادة الأجور، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، ومن أفضل الأمثلة على ذلك دول منظمة التعاون الخليجي التي استطاعت أن تحافظ على معدلات تضخم لا تزيد على رقم صحيح واحد لعقود.

الركود التضخمي
بالرجوع إلى علم الاقتصاد ومصطلحاته المعقدة، فقد وقع الاقتصاد العالمي خلال السنتين الماضيتين، وتحديداً عقب جائحة «كوفيد - 19»، فيما يسمى بالركود التضخمي الذي أفقد البشرية نحو 25% من قيمة النقود المملوكة، إذ سجلت السلع والمنتجات كافة زيادة قدرت بين 30% و50% حول العالم، وهذا لا يعني شيئاً سوى أن قيمة نقودك تراجعت. 
وقال أنيل آري، خبير اقتصادي في إدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة بصندوق النقد الدولي، إن التضخم بلغ في العالم مستويات تاريخية في عام 2022، بعد أن أحدثت الحرب الروسية الأوكرانية صدمة في معدلات التبادل التجاري تشبه الصدمة التي حدثت في سبعينيات القرن الماضي.
وأضاف أن توقف إمدادات النفط والغاز الروسية فاقم من مشكلات سلاسل التوريد التي أحدثتها جائحة «كوفيد»، مما تسبب في ارتفاع الأسعار. ففي الاقتصادات المتقدمة، ارتفعت الأسعار بأسرع وتيرة شهدتها منذ عام 1984. وفي الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، كان ارتفاع الأسعار هو الأكبر منذ التسعينيات.
وأكد آري أن التضخم عنيد، إذ يستغرق الأمر سنوات حتى يتسنى معالجته، وبحسب الدراسات، فشل نحو 40% من البلدان في معالجة صدمات التضخم حتى بعد مرور خمس سنوات، الأمر الذي كلفها الكثير من تحقيق معدلات النمو، وكذلك الحفاظ على الأسعار، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على قيمة العملة وسعر الصرف.

3 مراحل للتضخم
نتناول في السطور التالية تفصيلاً كيف يلتهم التضخم أموال الأفراد، إذ يعمل التضخم على 3 مستويات أساسية قادرة على أن تفقدك جزءاً كبيراً من أموالك، المستوى الأول هو: القوة الشرائية، فالسلع والخدمات التي زادت أثمانها في واقع الأمر لم تتغير، ولكن قيمة النقود هي التي تراجعت، حيث تتآكل قيمة مدخراتك وأموالك فعلياً بنسبة الزيادة نفسها.
المستوى الثاني هو التوفير، إذ يمكن أن يؤدي التضخم إلى تآكل قيمة مدخراتك بمرور الوقت، من خلال شقين، الأول هو ادخار الأموال دون استثمار وهو الخيار الأسوأ، حيث تتآكل قيمة الأموال المدخرة بمقدار نسبة التضخم عاماً تلو الآخر. أما الشق الثاني فهو الأموال المدارة في استثمارات غير مركبة، على سبيل المثال، إذا كان حساب التوفير الخاص بك يكسب معدل فائدة سنوية بنسبة 2% بينما يكون التضخم بنسبة 5%، فإن مدخراتك تفقد فعلياً 3% من قيمتها كل عام. هذا يعني أنه إذا كان لديك أهداف مالية طويلة الأجل، مثل الادخار للتقاعد أو الدفعة المقدمة في المنزل، فإن التضخم يمكن أن يعوق تقدمك بشكل كبير.
أما المستوى الثالث، وهو الاستثمار، فعلى الرغم من أن الاستثمار أحد وسائل التحوط ضد التضخم، إلا أنه يمكن أن يتأثر سلباً بمعدلات التضخم الكبيرة التي تترك حالة عدم يقين في مناخ الاستثمار، ويجعل هناك حالة من الركود.

أسباب التضخم
يقدر خبراء الاقتصاد أسباب التضخم في عوامل عدة، أبرزها:
المعروض النقدي، إذ يرجع التضخم في الأساس إلى زيادة المعروض النقدي عن النمو الاقتصاد، فكلما زاد المعروض النقدي وقررت الحكومة طبع المزيد من الأموال، نقصت قيمة العملة؛ لأن ذلك يعني المزيد من الأموال مع وجود الكمية نفسها من السلع، ما يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع، وبالتالي ارتفاع الأسعار.
الدّين الوطني، حيث يؤدي الدين الوطني إلى التضخم، ويرجع ذلك إلى أن الحكومات لا يكون أمامها لسداد الدين الوطني سوى زيادة الضرائب، أو طبع المزيد من الأموال، وعند زيادة الضرائب سوف تضطر الشركات إلى رفع أسعارها، لتعويض معدل الضرائب المفروضة عليها، وبالتالي يحدث التضخم.
سعر الصرف، إذ يؤثر سعر صرف العملة على التضخم بشكل كبير، فكلما كانت قيمة العملة المحلية أقل من قيمة العملات الأجنبية، سوف تكون أسعار السلع والبضائع المستوردة مرتفعة للغاية، ومُكلفة للمستهلكين في الدولة.
زيادة الضرائب، حين تفرض الحكومة المزيد من الضرائب، مثل ضريبة القيمة المضافة أو الرسوم الجمركية، فسوف يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار.
وقال جون بلودورن، نائب رئيس تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» في إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي: «في الآونة الأخيرة، تبدو توقعات التضخم على المدى القريب، قد تجاوزت المنعطف الحرج، وبدأت في التحول نحو مسار هبوطي تدريجي».
وأضاف في التقرير، أن مسوح المتنبئين المحترفين أظهرت توقعات التضخم على مدار الشهور الاثني عشر التالية، والتي بدأت رحلة صعود مطرد في عام 2021 في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة على السواء، ثم تسارعت في عام 2022 مع ازدياد زخم زيادات الأسعار الفعلية. غير أن توقعات التضخم على مدى خمس سنوات في المستقبل ظلت مستقرة، مع ثبات متوسط المستويات السائدة عموماً في حدود أهداف البنوك المركزية. 

طرق النجاة
لتجنب الوقوع في فك التضخم، بيَّن الخبير الاقتصادي سمير رؤوف، أن هناك طريقين يجب أن يسلكهما الأفراد للحفاظ على مدخراتهم وأموالهم، الأول هو اتباع آلية التحوط والتي تعتمد بشكل رئيس على حفظ النقود من فقدان قيمتها نتيجة التضخم، وذلك يكون دائماً من خلال شراء السلع كوعاء للقيمة، مثل شراء الذهب أو العقارات، وكذلك السلع الإلكترونية، وهذا ما يتّبعه أغلب الأفراد، إلا أن هذا النوع من التحوط يكون مفيداً للأفراد، ولكنه مضر للاقتصاد الكلي. وقال رؤوف، إن الطريق الثاني هو الاستثمار بشقيه المباشر وغير المباشر، حيث يعد الطريق الأفضل للتغلب على التضخم في حد ذاته، ويلعب دوراً هاماً في الاقتصاد الكلي للدولة، على سبيل المثل شراء العقار هو التحوط، ولكن شراء أرض وبناء وحدات سكنية أو تجارية يكون استثماراً، وهذا النوع من الاستثمار يمثل قيمة مضافة وحفظاً للقيمة ويحقق الأرباح. ومن صور الاستثمار غير المباشر المنتشرة في أوقات التضخم، أسواق الأسهم والسندات وغيرها من الأوراق المالية المدرة للربح، أما الاستثمار المباشر فيكون بإنشاء المصانع أو الشركات، وختاماً أفضل خيار في أوقات التضخم يكون في الاستثمار.