تغذّينا لوقت غير قصير على نظريات متعددة عن المثقف، كنظرية المثقف الواعي بحركة التاريخ المدافعِ عن المصالح الطبقية، والمثقف العضوي، والمثقف الملتزم، والمثقف المتكلم باسم المستضعفين، والمثقف ضمير التاريخ، والمثقف المتياسر بالطبع. فماذا لو حاولنا الخروج عن هذه النماذج التقليدية التي تعتبر أن المثقف هو الأكثر معرفة بحقائق الأمور، فتُنيطه بمهمات «تبشيرية» كي نعيد النظر، لا في الحقائق التي يدافع عنها المثقفون ويحاولون تكريسها، وإنما في العلاقة التي يقيمونها مع الحقيقة ذاتها!؟

ذلك أن الاختلاف بين المثقفين، لم يعد يدور حول حقائق بعينها، فنحن نجد اليوم صعوبة شديدة في التمييز فيما بين التيارات الفكرية وتصنيف المثقفين بين يمين ويسار. المثقفون، اليوم، يكادون يلوِّحون بالشعارات عينها. وربما كان ذلك لأن الاختلاف بينهم لم يعد يدور حول حقائق، وإنما صار يمتدّ إلى مقوّمات الحقيقة ونظام إنتاجها. أصبح المثقفون يختلفون، ليس حول صحة القضايا وصوابها، وإنما حول الخطابات التي تتمحور حولها الحقيقة، حول منابر الحقيقة ونماذجها وفضاءات إنتاجها. مجمل القول إن الصراع الثقافي أصبح يدور حول إقرار نظام بعينه لإنتاج الحقيقة. إنه صراع بين من يحاولون أن يرسّخوا في الأذهان أن الحقيقة قيلت منذ غابر الأزمان، وأنها لا تُغزى غزواً، وإنما تُدرك توّاً، فتؤخذ عمن هم الأقرب منها، الذين لهم الحقّ في نقلها... إنه صراع بين هؤلاء، وبين من يسعون إلى أن يبيّنوا أن الحقائق ليست «بنات الأدمغة» فحسب، وإنما هي ملطخة بالزمن، عالقة بالتاريخ، إنها، في الأغلب الأعمّ، أخطاء تمّ تصحيحها، فهي لا تتجلى عند نور أوّل صباح، وإنما تتولد عن علائق قوة، وتَشقُّ دروبها عبر توتّرات وتعثرات وصعوبات وعوائق. وهي لا تنفك تُضمِّد جراحها وتُصحّح نفسها، بل إنها لا تنفك تعيد النظر في أدوات تمحيصها ومعايير صدقها ومناهج بحثها. إنها تدرك دائماً، على حدّ قول أحدهم، في جوّ من النّدم الفكريّ.
ينبغي أن نفهم من ذلك أن المسألة تتعدى الطرح الإبيستمولوجي لترقى إلى الشرط الإبيستيمي، فتأخذ بعين الاعتبار، ليس علاقة الحقيقة بما ليس إياها، وإنما مجمل القواعد التي يدبَّر بها أمر الحقيقة في المجتمع، وعلائق القوة المتحكمة في ذلك. ذلك أن الحقيقة لم تعد «مجموع الأشياء التي يتعيّن اكتشافها وجعل الآخرين يتقبلونها»، وإنما «مجموع القواعد التي يمكن بمقتضاها أن نفرز ما هو حقيقي عما ليس كذلك، وننسب إلى الحقيقي سلطة ذات تأثيرات خاصة»، على حد قول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
طبيعي إذاً ألا يقتصر دور المثقف على أن يجعل الآخرين «يتقبلون ما اهتدى إليه». فلن تعود مهمته «إقناع الناس بحقائق بعينها»، و«نشر الوعي بينهم»، وإنما العمل على تغيير نظام الحقيقة الذي يعيشون في كنفه. وقد سبق للمفكر الفرنسي نفسه أن أكّد أنّ المشكل الأساس، بالنسبة للمثقف، ليس هو تغيير وعي الناس، وإنما تغيير نظام الاقتصاد السياسي والمؤسسي لإنتاج الحقيقة.
كان الفيلسوف سابق الذكر نفسه، قد حاول أن يحدّد سمات هذا الاقتصاد في المجتمعات الغربية الحديثة، فردها إلى خمس:
- أولها: أن الحقيقة في تلك المجتمعات متمركزة على شكل الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنتجه.
- وثانيها: أنها خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم.
- وثالثها: أنها موضوع نشر واستهلاك.
- ورابعها: أن إنتاجها وتداولها يتمان تحت المراقبة المهيمنة لبعض الأجهزة 
والمؤسسات، كالمدارس والجامعات ووسائل الاتصال.
-وآخرها: أنها مدار كل صراع اجتماعي.
إن سلمنا بنوع من السهولة باشتراكنا مع المجتمعات الغربية الحديثة في كثير من هذه المحدِّدات، فربما ينبغي أن نبدي نوعاً من التحفظ إزاء نقطتين: أولاهما، أنه يتعذر علينا أن نقول إن الحقيقة عندنا متمركزة على شكل الخطاب العلمي. والثانية، أن وسائط الاتصال لم تعد اليوم، وربما حتى في المجتمعات الغربية ذاتها، وسيلة لنشر الحقيقة وتداولها، فربما غدت، أكثر من ذلك، أداة لصناعتها.
لنبدأ بهذه المسألة الثانية التي يظهر أن المفكر الفرنسي لا يعيرها، وربما لم يكن له أن يعيرها في وقته الأهمية الكبرى التي أصبحت تتخذها اليوم، لا في صناعة الحقيقة، وإنما في صناعة ما يعمل كحقائق. 
وراء صناعة ما يعمل كحقائق في مجتمعاتنا المعاصرة التي تُنعت بأنها «مجتمعات الفرجة»، ما يدعوه أحدهم تشبّهاً Simulation. هذا التشبّه يعمل عمله في الواقع ذاته، فيقضي على إمكانية التمييز فيه بين الحقيقة والزيف، بين الفساد والصواب، بين الصدق والكذب، بين الخير والشر، بين الواقع والوهم. آلية التشبه هذه هي التي جعلت من مثقفي اليوم نجوماً، أو على الأقل، جعلت معظمهم يلعب دور النجم الذي يتوسط علائقنا بما يروج حولنا، فلا نكف نتطلع إلى ما سيقوله وما سيفعله، كي نرى الأمور بعينيه وندرك الواقع بمداركه. 
التحفظ الثاني الذي أبديناه بصدد ما قاله م. فوكو عن الاقتصاد السياسي للحقيقة في المجتمعات الغربية الحديثة، هو أنه يتعذر علينا نحن أن نقول مثله إن الحقيقة متمركزة على شكل الخطاب العلمي. ذلك أن الفكر العلمي، أو كما تقول العبارة الفرنسية، إن الروح العلمية ربما ما تزال غائبة عن مجتمعاتنا. وخصوصاً بما تتميز به من انفتاح على السؤال، وتقبّل للانتقاد، وتدرُّج في بناء المعرفة، ونسبية في اعتناق الحقائق، وروح جماعية لبنائها. لعل ذلك الغياب هو ما يفسح المجال لهيمنة نماذج في قياس الحقيقة أقرب إلى الوثوقية، وربما إلى الوثوقية في أبشع أشكالها. أعني الوثوقية وقد تجسدت في مؤسسات وسكنت أجهزة أيديولوجية، وتخشبت في واقع مادي، بل واقع مادي عنيف. 
يتضح إذاً أن كل تجديد للفكر عندنا رهين أولاً بوعي الأهمية الكبرى لوسائط الاتصال الجديدة، وحسن استخدامها في مواجهة هذه الوثوقية المتخشبة التي استطاعت هي أيضاً أن تعزز وجودها باستعمال الوسائط ذاتها. ولعل هذه هي المهمة الصعبة الملقاة اليوم على كاهل مثقفينا، إرساءً للروح العلمية في مجتمعاتنا، وتمهيداً لـفكر عربي جديد.