محمود إسماعيل بدر(الاتحاد) 

ربما يكون أهم حدث أدبي ثقافي رفيع في صدارة مطلع 2021، هو الإنجاز الذي أعلنته «اليونسكو» باعتماده عام الروائي الرّوسي فيودور ميخيلوفتش دوستويفسكي (موسكو 11 - نوفمبر 1821 - 9 فبراير 1881)، احتفالاً بالذكرى المئوية الثانية لميلاده، ليعود ثانية إلى الواجهة، ليس في روسيا وحدها، بل في العالم كلّه سيحتفي بهذه الشخصية الفريدة التي رأت العالم بعيون جمعت بين إعجابه وتقديره للجمال، الذي قال عنه «إنّه ينقذ العالم». 
إذا أردنا التعريف بـ «دوستويفسكي» من السّطح، فيعرف بأنّه روائي وقاص وصحفي وفيلسوف روسي، عدّه نقاد الأدب من أشهر الكتّاب والمؤلفين حول العالم، أعماله تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية، كما تقدّم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والروحية لروسيا في القرن 19، والعديد من هؤلاء النقاد اعتبروه أحد أعظم النفسانيين في الأدب العالمي، وأحد مؤسسي المذهب الوجودي، حيث تعتبر روايته القصيرة« الإنسان الصرصار» أول الأعمال في نسق هذا التيار، وأكثر أعماله الروائية شهرة: الأخوة كارامازوف، الجريمة والعقاب، الأبله، الشياطين، المراهق، المساكين. أما في العمق فقد كان«دوستويفسكي» أديباً استثنائياً مفتوناً بالإنسان، شغوفاً ومأخوذاً بتعقيداته، ليصب كل اهتمامه الأدبي على فهم طبائع البشر، وإدراك اختلافاتهم، والنفوذ إلى أعماق أرواحهم، إنّه يحاول استكشاف سلوك الإنسان باعتباره كائناً غير منطقي، مقدماً للعالم في النهاية إبداعاً إنسانياً شمولياً، إنّه باختصار نجح في أن يضع القارئ أمام هشاشة الإنسان وضعفه وعجزه، وبحثه الدائم عن مصدر ارتواء وأمان، وكأنه قد كان سابقاً لعصره في تصوير ما تعانيه البشرية اليوم جراء جائحة كورونا التي قلبت موازين البشرية بأكملها، حيث تقوم مجمل روايات دوستويفسكي على المعارضة بين إرادة الإنسان ومصيره الذي لا فكاك له منه، الإنسان الذي ينخرط مدفوعاً بالأمل والرغبة في وجود لا يفهمه، ولا يستطيع أن يمتلك المعاني فيه امتلاكاً كاملاً أبداً، يطلق أستاذ النقد الفرنسي«رينيه ماريل ألبيريس» في كتابه «تاريخ الرواية الحديثة» اسم «الرواية المفجعة» على النوع الأدبي الذي ولد بولادة هذا الكاتب الكبير. 
إذا عرجنا قليلاً على كتاب «محاضرات عن الأدب الروسي» نجد أن نابكوف «يعتبر دوستويفسكي» أهم أديب ظل طوال حياته يتناول في أعماله ذلك الصراع المحبب إلى نفسه: صراع من يتحلون بالفضيلة ضد ظروفهم القاسية، معتقدين أن فضيلتهم ستصمد، وهو هنا يضع شخوصه في ظروف مثيرة للشفقة، ثم يستخلص بمهارة فائقة من معاناتهم ومحاولاتهم المستميتة للنجاة آخر قطرة ممكنة من التعاطف والارتباك الإنساني». 
يحتفي العالم بهذا الكاتب المشاغب وبإرثه العريق باعتباره قيمة عالمية في الأدب، ولكونه أحد أبرز الأسماء التي ما زال صداها باقياً حتى اليوم، فهو الكاتب الاستشرافي الذي ترجمت أعماله إلى لغات عديدة منها العربية، وفي أكثر من 30 ترجمة، وأصبحت جزءاً من تراث البشرية الروحي، رغم ولعه الشديد بـ«الأمور الجارية اليومية»، فرواياته جميعها، كانت موجهة بصورة دائمة إلى عصره الراهن، معتبرا أن ذلك يصوّر أزمة وتحوّل في حياة روسيا وأوروبا، عصراً يشكل نهاية مرحلة ومقدمة لمرحلة جديدة أخرى من التطور التاريخي الاجتماعي الثقافي.