محمد نجيم (الرباط)

بعد ترجمته وتأليفه عشرات الكتب، وبعد عقود من البحث الأكاديمي والتدريس الجامعي، أصدر الناقد والسيميائي المغربي المعروف سعيد بنكراد سيرته الذاتية بعنوان «وتحملني حيرتي وظنوني: سيرة التكوين»، ابتدأها من طفولته بمدينة فاس إلى جامعة السوربون العتيدة حيث نهل من معين الفكر والحداثة، واحتكَّ خلالها بكبار النقاد والكتاب والفلاسفة، وبأعمالهم التي ترجمها إلى «العربية»، خاصة أعمال ميشييل فوكو، رولان بارث، في فرنسا، وإمبرتو إيكو في إيطاليا وغيرهما من أعمدة الفكر الأوروبي الحديث.
ويرى بنكراد أن الحياة، لا يمكن أن تتسلل إلى الذاكرة إلا من خلال قدرة الإنسان على التقاط صورها كما تتحقق ضمن «إيقاعات» زمنية تُرى في السرد وأساطيره، أي ما يُشكل سيرة الأفراد والجماعات. وقال: «نحن لا نستوطن الزمن ونحياه بوساطة ما فعلناه فحسب، بل نلجه أيضاً وفق ما حلمنا به أو تمنيناه أو ظل كامنا في وجداننا أو طوحت به الإحباطات. وذاك شرط اشتغال الذاكرة، إنها تستعيد ما خزنته حقاً وما علِق بها عرَضاً، أو ما حاولت إعادة تركيبه استناداً إلى حيوات أخرى هي ما يُصدِّق على ما يرويه الناس عن أنفسهم. فنحن في السيرة وفي الحياة أيضاً نستمد جزءاً كبيراً من هويتنا من انتماءات قبْلية».
وتلك وظيفة السيرة أو جزء منها على الأقل، وذاك ما يتحكم في تقاطعاتها مع ما يُبنى في التخييل أيضاً، فالذي يحكي يفعل ذلك ليُقنع نفسه بقصته قبل أن يقنع الآخرين بها. وأوضح: «الذات تتعرف على نفسها في القصة التي ترويها لنفسها عن نفسها، فالحاكي في السيرة، وفي التجربة الواقعية، لا يأتي إلى الأشياء خالي الذهن أو بريئاً من كل حكم مسبق، إنه يلتقط منها ما تجيزه موسوعته أو ما تشتهيه نفسه فقط».
ولا تختلف السيرة إلا قليلاً عما يبنيه التخييل الروائي، وعما تكشف عنه وقائع التاريخ وطريقة استعادتها، فالرواية مشدودة دائماً إلى ما تقوم بتمثيله من خارجها، وبالمثل لا تستطيع «موضوعية» الوقائع في التاريخ خلاصاً مما تُنتجه الذاكرة على هامش ما يتطور خارج وعي الذات، أو ما يُراد إخفاؤه أو التمويه عليه. وتلك هي خصوصية السيرة، إنها تندرج ضمن كل المحاولات الرامية إلى الإمساك بلحظة أولى ترغب الذات داخلها في وضع اليد على ماهية «الأول المطلق» في الحياة، وفي الوعي، وفي التكوين، إنها شبيهة باستكشاف حالات الوعد والاختيار، أو هي التذكير بالخطيئة أو الاستخلاف كما أرستها في وجداننا عقائدنا وعقائد غيرنا. إن الإنسان، حسب بنكراد، موجه من داخله نحو النهاية، لقد «خُلق للمستقبل»، وذاك ما يدفعه إلى الاحتفاء بكل «البدايات» في حياته.