فاطمة عطفة (أبوظبي)
يظل الشعر أنشودة الحب والحياة في كل العصور، وتتردد أبياته على ألسنة الكبار والصغار، وفي خواطر الأمهات والآباء، لأنه لغة القلوب الرقيقة وخلجات المشاعر الصافية ورسالة الصبر والرجاء. وديوان الشاعرة شيخة محمد الجابري «الثلث الآخر للغياب» حافل بالأشواق، ويحتفي بدائرة واسعة من المشاعر الوجدانية الرقيقة والتطلعات الإنسانية الحميمة، وهي أقرب ما تكون إلى هدهدات الأم لطفلها، وإن كانت صوره الشعرية تعبر عن جمال الصبر ونعمة الأمل حيناً، وعن وحشة السهر وقسوة الهجر والغياب في أكثر الأحيان. تقول الشاعرة في الإهداء: «للأجنحة.. التي تسافر على متنها الكلمات»، ولابد أن يتوقف القارئ وهو يفكر بالحمائم التي تحمل كلمات المحبة ورسائل المحبين في عذوبة الهديل ورفيف الأجنحة!
حديث الأماكن
وأتوقف مع باقة من قصائد الديوان، وهي تلهج بالعتاب واللوم والأسى، أو تتأمل إشراقة الصباح وتستعيد حلاوة الأيام الخوالي وذكرياتها، أو ترحب بطيب اللقاء وتحاور النفس للعزاء والسلوى. والقصيدة الأولى بعنوان: «حديث الأماكن». وتشكل الأماكن التي نسكنها أو نزورها حاضنة دافئة تجمع المحبين، سواء كانت بيتاً، حديقة، وسيلة سفر، أو شاطئ بحر؛ لأن الأماكن العزيزة تسكن قلوبنا أكثر مما نسكنها، لأننا قد نغير المكان ونبتعد عنه، لكنه لا يغيب عن القلب والذاكرة، ونظل نحنُّ إليه. وقد نصادف في حياتنا كثيراً من الناس، ولكن تبقى ذكرى من نحب وحدها محفوظة في حبة القلب، وتزهر الأماني حيناً بأمل اللقاء فيحضر الفرح ويملأ الحياة طيباً وبهجة:
أجمل تفاصيل الصباح ابتسامه
وقلوب تتهادى الفرح وابتهالات
وتتردد (لا) مشحونة بالأسى واللوم والعتاب: لا تبتعد، لا تسألني، لا تعاتبني، ولا تسرح مع أوهامك لأن لوعة القلب ودمعة العين هما عزاء المحب في زمن الوحشة والجفاء، ويبقى السؤال طافحاً بالمرارة، ولعل السكوت أفضل وأجدى، لأن قلب المحب مليء بالأشواق وملفوف بالجراح. ويظل سؤال الحيرة هو الذي يشغل نفس المحب ولا يعرف أين يروح ليخفف لوعة الفراق. ونصل إلى قصيدة «الثلث الأخير» التي انفردت بعنوان المجموعة، فنرى أن الحبيب جاء بعد فوات الأوان، ولم يعد بالإمكان إحياء زهوة الشباب الذي راح بكل أشواقه وأشجانه! وحتى صوت فيروز الذي كان معبّراً عن أفراحنا صار مثقلاً بالحزن من طول الغياب!
وتبقى الذكريات
وبعد أن يستعرض المحب شريط الذكريات لابد أن يصل إلى الخاتمة المؤلمة التي تنتهي إليها كل علاقة غير منسجمة بين صديقين أو حبيبين، فتسأل: ماذا يمكن أن تقول، بعد أن أصبح بيت الأمل خراباً وسكنت الأشباح في ذلك الحضن الذي كان أيكة للأنس والألفة والوفاء. وتلجأ للقلم كعزاء:
قلت أكتبك يمكن أشوفك ف حرفي
والاّ تمر بحاشية سطر محذوف
وتتابع الشاعرة الجابري أناشيدها بين الحزن والرجاء والفقد والحنين، متأملة حزن البحر والصواري في رحلة الحياة، تاركة الربان يعزف نايه على هواه. وتبقى الذكريات هي العزاء الذي يسعدنا باستحضار أيام وأجواء من الألفة والفرح، ولكنها ليست أكثر من حلم عابر أو وعد طواه الزمن ولن يعود. وتمتاز قصائد الديوان بلغة شعرية مدهشة في بساطتها وعمق دلالتها، على اختلاف صور أبياتها وحالة الوجد فيها، وليس للشاعر إلا السهر والحلم وطول الانتظار، لعل الغد يأتي بجديد ويروي ظمأ المشتاق. والديوان من إصدارات «نبطي للنشر» ويضم أكثر من 50 قصيدة.