لاحق فاتك الأسدي أبا الطيب المتنبي ليقتله، لكنه قتل نفسه وصنع قصته البائسة بوصفه قاتل أشعر شعراء العرب، وهذه خاطرة جاءتني حين استمعت للفيديو الذي ظهر فيه الشاعر حيدر العبد الله، وهو يروي قصة وجعه الذي صنعه له المتنمرون عليه وعلى شعره وعلى (صوته)، وإن كان المتنبي مات قبل أن يروي قصة مقتله، فإن حيدر ظل يحارب محاولات قتله بشعره وبصوته، ولم يخجل من صوته بل جعل الصوت نفسه سلاحاً فتاكاً يشهره بوجه الفاتك غير الأسدي (الفاتك التنمري)، ووجوه التماثل ما بين حال المتنبي وحال حيدر العبد الله أن كليهما ضحايا لشعرهما (صوتهما) والتربص بهما صدر عن صيت وصوت كليهما، واختلفت حال حيدر، لأنه ظل مسيطراً على مجريات المعركة، وهي المعركة التي حمي وطيسها أول ما حمي في «تويتر» عام 2016 إثر قصيدته المشهورة أمام الملك سلمان في زيارته للأحساء ذلك العام، وفي تلك المناسبة، ألقى حيدر قصيدة تألقت شعراً وفناً وصنعت لحظةً شعرية لافتة غير أن جماهير الناس لا يفكرون حين ينفعلون، تلك الجماهير التي لم يعجبها (صوت) حيدر الشفيف وهم جمهور ترسخ في ذهنه أن الشعر المناسباتي صوتٌ مدفعي يطلق الكلمات كما تطلق الرصاصات، أما إن جاء الشعر هامساً فسيجد ما وجده محمد مندور من عدد من الكتاب الذين ناصرهم العقاد ودعمهم ضد مندور، حيث سخروا من دعوة مندور للشعر المهموس، وقد قصد مندور حينها القول بحاجة الشعر العربي للتخلص من زمن الفحولة وتقاليد الشعرية العمودية لكي تأخذ القصيدة بزمن الفكر والتأمل لتمنح الشعر لغةً عصريةً تتعايش مع العصر الحداثي والوعي الذي يعتمد لغةً تثير التفكير والتبصر بعد أن طغى على الشعرية العربية معنى الخطابية واعتماد قوة الإلقاء وغلظة الصوت لتكون جوهر الشعرية، وهذا ما اضطر شاعراً كبيراً مثل أحمد شوقي بأن يختار أصواتاً ذات قوة جهورية لتلقي شعره نيابةً عنه لأن صوته رخي وشفيف، فكان يخاف أن ترسب قصيدته أمام جهورية حافظ إبراهيم في أي مناسبة يجتمع فيها الشاعران، ولكن شوقي مر دون سياط من الجماهير الغاضبة التي تنتظر الصوت وليس الشعرية، غير أن حيدر العبد الله لم يسلم من غضب الجماهير التي استحلت أعراض القصائد ونسيت الشعرية، فغاب عنها الوعي النقدي وراحت تسدد سهامها للصوت، وكأن الصوت الهامس عيبٌ وعارٌ شعري، كما كان الشعر المهموس عاراً في زعم بعض الأوصياء من النقاد بكلمات ساخرة ومستهزئة.
ومرَّت سنوات على حادثة قصيدة حيدر العبد الله والضجة حولها، ولكن القصة ظلت تتردد في مواجهات محزنة أوجعت الشاعر مما جعله يروي قصته ويكشف وجعه وطرح قضيته مع الجماهير وهي بمثابة سيرة شعرية يقصها الشاعر ليكشف فضيحةً ثقافية تستمتع بإيذاء غيرها ولأي سبب تخترعه وتجعله حجةً ضد المختلف عن ذائقتها المستوردة من وهمها عن مقام الشعر وشرطه وميزته إذا اختلف عن المعهود، وقد استمعت لحديث حيدر وتأثرت معه وفي الوقت ذاته فرحت له بانتصاره على قتلته الذين عجزوا عن قتله، وهم الذين ظلوا يطلقون عليه رصاصاتهم وظل هو يتلقاها وكأنه المنتصر في معركة ينقلب فيها السحر على الساحر فيقتل المقتول قاتله كل ذلك برحابة صامتة، ولكنها رحابةٌ كرحابة الشعر وبانتصار كانتصار الشعر، وفي الأخير ينتصر الشاعر على الفاتك ويرتد غدر فاتك لصدره، لأن حفيد الشعر لم يستسلم لقاتله فقدم شهادةً تعري القتلة وتضعهم في محكمة الذوق الواعي والرأي الذي يفهم ويحسن الفهم والنظر.