نوف الموسى (دبي)
المسيرة التوثيقية للمطبوعات المعرفية التي يتبناها القائمون على الجناح الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة بمعرض الفن والعمارة في بينالي البندقية، من خلال منهجية نوعية مبنية على قراءة الفعل الفني وصيرورته في المشهد الثقافي المحلي، وأبعاده على المجتمعات الفنية العالمية، تستدعي التقدير والاهتمام، خاصةً بعد أن شكلت الإصدارات البحثية مرجعية علمية متخصصة، فتحت أبواباً للحوارات والنقاشات الاستثنائية في العلاقة بين البيئة الطبيعية والحياة الفنية في دولة الإمارات. واللافت في التجربة ككل، كيف أن مطبوعات جناح دولة الإمارات في بينالي البندقية، المقدمة باللغتين العربية والإنجليزية، مستمرة في تأسيس مضامين تجريبية ونماذج معرفية تتخذ من المساحات الميدانية والتفاعلات الحضرية اليومية، وما تتضمنه من سياقات تاريخية وموروثات أدبيه، فضاء عاماً لتقييم السرديات غير المروية والمجهولة حول الفنون والعمارة في دولة الإمارات.
الجدير بالذكر أن عدد إصدارات جناح دولة الإمارات وصل إلى نحو 12 مطبوعاً صاحبت المعارض الفنية في بينالي البندقية، والتي انطلقت بمشاركة الدولة منذ عام 2009، حيث صدرت أول مطبوعة بعنوان: «ليس أنت بل أنا»، وثقت وقتها صعود المشهد الفني الإماراتي ومشاريع المتاحف المستقبلية، وعُرضت أعمال للمصورة والمخرجة الإماراتية لمياء حسين قرقاش. والسؤال الجوهري هنا يدور حول المخرجات التوثيقية وأساليب الكتابة الحديثة، في إحداث وعي في مجال الإبداع الثقافي وأثره في استدامة الحياة الطبيعية، بالتوازي مع حضور القصص والروايات الإنسانية في البيئة الإماراتية. 

مدلولات ثقافية
لاقت الإصدارات في السنوات المتتالية من مشاركة دولة الإمارات في بينالي البندقية، اهتماماً لافتاً في آلية تناول موضوعاتها، وتعزيز سياقاتها الاجتماعية، ذات الارتباط الحيّ والديناميكي مع مسيرة قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، وما صاحبه من تحولات مستمرة، أنتجت أسئلة فلسفية ومفاهيم فكرية باتت ظاهرة في الإبداع الأدبي والروائي والموسيقي والعمراني وغيرها، وجميعها مدلولات ثقافية تتطلب أشكالاً تعبيرية متعددة لإعادة اكتشافها باستمرار، ما من شأنه أن يخلق جسوراً لا نهائية يتواصل من خلالها المجتمع المحلي مع ذاته بالدرجة الأساسية، ومع العالم في انفتاحه وإقباله على التغير والتطور. ومن بين أبرز مطبوعات جناح دولة الإمارات في بينالي البندقية، في السنوات الأخيرة هي: «الحياة ما وراء العمران الشاهق»، من تحرير خالد العوضي، الذي اهتم بطرح طرق بديلة لبناء المدن في دولة الإمارات، ذات لمحة إنسية في البناء، والحقيقة أن تقديم الكتاب للقارئ العام، للاطلاع على مبحث «الوجودية» في الدراسة المعمارية، يهدينا الجهد الجمالي الذي يبذله جناح دولة الإمارات في بينالي البندقية، التي تتولى مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان اليوم مهام المفوّض الرسمي له بدعم من وزارة الثقافة والشباب، في توسيع مفاهيم الثقافة وممارساتها في الوعي المجتمعي العام، خاصةً إذا ما نظرنا أيضاً لكتاب «نجوم الغانم: عبور»، من تحرير سام بردويل وتيل فلرات، والذي يمثل نقلة نوعية في الشكل التعبيري للمدينة من خلال إنتاج فيلم تركيبي للشاعرة والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، تحتفي فيه القصيدة بالسؤال عن المكان، من خلال شاعرية مليئة بالتساؤلات.

نسق تاريخي
ميزة كتاب «تشريح مناطق السبخات»، من تأليف راشد وأحمد بن شبيب، وتحرير وائل الأعور وكينيتشي تيراموتو، الصادر ضمن معرض «أرضٍ لَدِنة» في عام 2021، أنه لم يكتفي بمناقشة العلاقة التاريخية بين الإنسان والسبخات، لطرق التي استخدم فيها البناؤون والمهندسون المعماريون السبخات لتكون مورداً مادياً اقتصادياً فقط، بل قدم الكتاب والمحرران كذلك مقاربة لطبيعة مكون السبخة مع النسق التاريخي للعديد من الدول من حول العالم، وبذلك يستشعر المجتمع الثقافي الفني بامتدادات مفهوم «السبخة» ورمزيتها كمساحة مشتركة بين العديد من الثقافات الإنسانية والحضارات القديمة. وما استوقفني شخصياً، في الإصدارات الخاصة بجناح دولة الإمارات في بينالي البندقية، كتاب «محمد أحمد إبراهيم: بين الشروق والغروب/ أعمال فنية: 1986- 2022»، من تحرير مايا أليسون و‬كريستيانا‭ ‬دي‭ ‬ماركي، والسبب يعود ببساطة شديدة للمنهجية الابداعية في رواية قصص الفنانين في دولة الإمارات، فالكتاب يتعامل مع المحيط المجتمعي العام للفنان، كلوحة فنية ضخمة من التداخلات المقصودة والعفوية لاستحضار حالة انطلاقة «فن الأرض» والطريقة التي تفاعل معها الفنان محمد أحمد إبراهيم. فالكتاب فعلياً لا يُمثل معرضاً وأعمالاً وحدثاً بذاته، إنما ارتحال طويل وتراكم كثيف للحظة ولادة الانتماء الحسيّ والجسدي لأُناس المكان مع هذه الأرض. 

وفرة قاحلة
يشهد في الوقت الحالي إصدار «على مد البصر: مشاهد من وفرة قاحلة»، من تحرير فيصل طبارة وميثاء المزروعي، لجناح دولة الإمارات اهتماماً واسعاً، بعد إطلاقه في معرض «وفرة قاحلة» ضمن الدورة الـ 18 من المعرض الدولي للعمارة في بينالي البندقية، والمستمر لغاية 26 نوفمبر 2023 في المقر الدائم للجناح الوطني في منطقة «أرسنال- سالي دي آرمي» في بينالي البندقية، لفتت من خلاله ميثاء المزروعي بملاحظة بديعة حول كيف أن الإصدار مثل امتداداً للمساحات المبنية في معرض «وفرة قاحلة»، مضيفةً أن المدهش في رحلة الكتابة عبر تجربة بينالي البندقية، هي جمالية إدراك الأشياء وسردها بعفوية وبشكل أقل تنظيماً، حيث للكلمات والملاحظات ووجهات النظر قابلية التكيف والسرد.