نوف الموسى (دبي)
ما أحدثه الفنان وعالم الآثار الإماراتي عمّار البنا؛ عندما قرر أن يلتقط فوتوغرافيا لحياة فرق البحث العلمية في المناطق الأثرية بدولة الإمارات، قدم حالة توثيقية ببعد فني استثنائي، بأن ينضم بنفسه كباحث عن القطعة الأثرية ودلالاتها التاريخية، إلى مضامين الصورة الفوتوغرافية للموقع الأثري، أيّ أن يُجسر الحياة الحاضرة في المشهد المعرفي، ويهديها امتداداً زمنياً آخر، عبر بناء سرديات جديدة، من شأنها أن تقرب القطع التاريخية للمتلقي، وتُلهم المجتمع العام، بفضاءات علم الآثار، في كونها تتجاوز الفكرة المتحفية، إلى مفهوم اجتماعي يدرك من خلاله الأفراد البعد الحضاري لجغرافيا المنطقة، وكيف أن كل مُكتشف إنما هو جزء حيوي من مكون هويتنا المحلية، واتصالاتها اللانهائية بالحقب الزمنية المتسلسلة عبر التاريخ الإنساني. 
وفي حوار لـ«الاتحاد» مع عمّار البنا، أوضح كيف أنه على المستوى الشخصي يستشف ما يمكن أن نطلق عليه نوستالجيا المواقع الأثرية، بمعنى أن يشعر المنقب أثناء عمله بالحنين لمكان لم يعش فيه من قبل، أو لم يعاصر فترته، ما يوحي بمدى الملَكات الشعورية للبشر، وكيف أنها متجذرة في المعمار المكتشف، بكل تفاصيل المواد والقطع الوظيفية والجمالية المستخدمة من قبل القاطنين في الموقع منذ آلاف السنين. وما يحدثه قرار إضفاء الرؤية الشخصية في فوتوغرافيا المواقع الأثرية عبر مجموعته الفنية المعنونة «الاستقرار في الماضي» المعروضة حالياً بمعرض «الزمن والهوية» بمكتبة الصفا للفنون والتصميم بدبي، هو أنها تسمح لناس عامة بإعادة اكتشاف الآثار، والتوسع في تناول موضوعاتها عبر النقاشات والحوارات المفتوحة، وعدم الاكتفاء بالمعلومة المعروضة في المتاحف والمواقع الأثرية المخصصة فحسب.

توثيق حياة
وبدأ منقب الآثار الإماراتي عمّار البنا، بتصوير اللحظات العابرة، عندما تنطلق فرقة البحث في رحلة المسير بالسيارة للموقع، وبينما ينغمسون في اكتشافات معينة، وكذلك في فترات الاستراحة المخصصة للفريق بين كل عملية حفر وتنقيب وتريث وإعادة محاولة وأخرى، لافتاً إلى أن نقطة التحول الرئيسة التي دفعته لتوثيق حياة فرق البحث العلمية، هي أنهم كمنقبي آثار، عندما يستهلون العمل ينسون أنفسهم في الموقع، وينخرطون في البحث، ما يفقدهم أحياناً الحس العام بالمكان. والفوتوغرافيا هنا بمثابة منظور أوسع لملاحظة ما يحدث بينما الكل مطمور في عمق التجربة البحثية الميدانية. واختلاف الحال عنه في تصوير المواقع الأثرية بشكلها العلمي الاعتيادي، كما لفت عمّار البنا، أن الأخير مبني على معايير دقيقة، وزوايا التقاط مختلفة عما يمكن أن تقدمه الفوتوغرافيا الفنية، فهو يتركز على الشروحات التفصيلية والبيانات المحددة ضمن إطار منهجي، مُعد للتقارير والبحوث الميدانية والمرجعيات العلمية، بينما ما أراد هو تقديمه في المجموعة الفوتوغرافية الفنية هو طبيعة الحركة في الحياة العامة للمواقع الأثرية. 
وجاء السبب خلف استخدام عمّار البنا لكاميرا الفيلم القديمة، ذات الإحساس اليدوي، أنها تسمح للمصور الفوتوغرافي بأن يتحكم في بيئة اللقطة المصورة، حيث تمكنه من تعديل سرعة العدسة، ووضعية الإضاءة، والتدقيق في اختيار الموقع وغيرها، حيث إنه يجهز لكل تلك المراحل، ولا يعلم النتيجة النهائية إلا بعد تحميض الفيلم، ما يعطي الصورة قيمة أكبر، مضيفاً أنه في كل صورة فوتوغرافية وصلت لمنتجها النهائي، هناك ذاكرة خاصة فيها، كونها أخذت وقتاً ومساحة ومجهوداً في العمل، قد تتم في نصف ثانية بانتهاء اللقطة، إلا أنها ترجمة عملية لمرحلة مفعمة بالاستعداد التقني، وهو ما يعيدنا مجدداً لمفهوم التنقيب، الذي يتطلب النفَس الطويل، والمثابرة، والصبر، للوصول إلى نتيجة قد تكون غير معروفة سلفاً، وأحياناً مُفاجئة ومُدهشة، ولكنها دائماً تبقى جديرة بالمحاولة والاستمرار، ومحل تقدير كبير في المجتمع العلمي. 

شغف البحث
ويتذكر عمّار البنا أول قطعة أثرية اكتشفها منذ انطلاق عمله في مجال التنقيب، فقد كانت عبارة عن قطع خرز ومحار، مبيناً كيف أنه في لحظة الاكتشاف الأولى يصعب على الشخص إدراك شعوره مع القطعة المكتشفة، ولكن مع مرور الوقت يستوعب أنه أول من رأى القطعة بعد آخر مستخدم لها منذ قرون سحيقة. ونتحدث هنا عن مواقع أثرية قد يتجاوز عمرها نحو 500 عام أو 2000 عام، لافتاً إلى أن متعة البحث تكتمل بدراسة تاريخ القطعة، واستخداماتها وتأثير حضورها في المجتمع آنذاك، فقطعة صغيرة جداً، كفيلة بتغيير رؤية فريق البحث إزاء الموقع، من حيث تعريف هويته ونشاطاته الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة الزمنية. 
وفي سياق التحديات التي يواجها علماء الآثار والمنقبون في المواقع الأثرية، يوضح عمّار البنا، أن المناخ في دولة الإمارات، يكون صعباً أحياناً أثناء عملية التنقيب، إلا أن ما يهون عليهم الأمر دائماً، استمتاعهم بمشاهدة المناظر الطبيعية التي يتفرد علماء الآثار بمشاهدتها، فهي تجعلهم متصلين بالبيئة الطبيعية وجماليات كنوزها المعرفية.