حوار: ساسي جبيل

الحديث إلى الناقد والروائي الدكتور مصطفى الكيلاني يفتح أكثر من أفق، فهو صاحب تجربة إبداعية وفكرية، تخوض في أسئلة عميقة، وتبحث في كثير من المقاربات غير المطروقة، بالإضافة إلى أنه من النقاد القلائل الذين خبروا دروب الإبداع التونسي والعربي في كثير من أجناسه. وفي حديثه لـ«الاتحاد الثقافي»، يتطرق إلى الكتابة وعلاقتها بالواقع والحرية، وعلاقة الأديب الناقد بمحيطه في ظل انحسار النقد الأدبي العربي نسبياً خلال السنوات الأخيرة.

* لنبدأ بسؤال الكتابة والحريّة.. كيف يقرؤه مصطفى الكيلاني بصفته ناقداً وروائياً؟
- سؤال الكتابة هو بعض من سؤال الحريّة، إذ لا كتابة ولا انطلاق لها ولا تنوّع ولا ثراء إلاّ بها. وسؤال الحريّة هو بعض من سؤال «ما هو الإنسان»؟ الذّي هو السؤال الرابع في مقدّمة إيمانويل كانط لـ«نقد العقل الخالص» حيث يلي سؤال المعرفة ثم سؤال الدّين (الميتا - فيزيقا فالأخلاق فالدّين ثم الأنتروبولوجيا). ولذا فالكتابة هي الردّ من موقع خاصّ «الذّات الكاتبة» على الأسئلة الأربعة، وفي مقدّمتها «من هو الإنسان؟»، الذي فتح به كانط أفقاً جديداً للفلسفة والفلسفة الجماليّة والظاهراتية والأنطلوجيّة لشوبنهاور وهيغل وماركس ونيتشه وهوسرل وهيدغر ثمّ سارتر ومرلو بونتي وبوبر وإيمانويل لفيناس وهانز جورج غادامير وجاك دريدا.. فلا كتابة، إذن إلا بالحريّة التّي هي فعل الإنّية موصولة بالغيريّة، أي بالفرد والمجموعة التي ينتمي إليها.
وكما أن الحريّة في التمثُّل الفلسفي المعاصر هي سبيل وأفق وفعل وحافز ومُحرّك وغاية وموقع وتموْقُع في العالم، واختيار وقرار والتزام (جان بول سارتر)، وهي كلّ ولا اجتزاء ومآل (مرلو بونتي) وإنّية بالغيريّة وغيريّة بالإنيّة اشتراكاً في الفعل والغاية (إمانويل لفيناس)، فالكتابة أيضاً هي فعل إنّيّ وثيق الصلة بالغيريّة لكونه فعل نداء، خطاباً موجّهاً إلى الآخر (القارئ/ القُرّاء)، وهي تحدّي القلق والسعي إلى إكساب الوجود معنى، وهي المخاطرة أيضاً، كدعوة فريديريك نيتشه على لسان «زرادشت» في «هكذا تحدث زرادشت». 
والكتابة إلى ذلك هي لحظة في مغالبة الزمن الهادر، ومحاولة تذكّر في مغالبة النسيان. هي فعل حريّة وتحررّ، لأنّ الإنسان حرّ في كلّ الأوضاع مهما كانت المُعّوقات، فيختار. وفعل الكتابة ذاته اختيار، هو «براديغم» داخل اللّغة وبها، فعل تداول كالذي تعلمناه أيضاً من تداوليّة «فتغنشتاين»، هي حدّ ولا حدّ، حد بما يشبه الخُطاطة المرجعيّة (shème) لأيّ مكتوب أي كاتب، ولا حدّ بالعفويّة الكاتبة المفاجئة الصادمة أحياناً، إذ الحريّة هي في الأصل والمرجع مزيد من الحريّة بالمزيد من الفعل ومن الإنجاز. ولأيّ شخص الحريّة في أن يكتب، ولكلّ شخص الحقّ أيضاً في القراءة، والكمّ المتراكم هو الذّي ينتج المتفرّد الإبداعي. فلا ضير في الكثرة، بل بالكثرة ينتج النوع ويتحقّق الإبداع. ولذا أجدُني من أنصار القراءة المتعدّدة، القراءة العموميّة تبعاً لتعدّد الأذواق لتوفير رأي عام أدبيّ وفكريّ وثقافيّ (وهو شبه الغائب أحياناً في حياتنا الثقافيّة التّونسيّة والعربيّة) والقراءة الإعلاميّة المختصّة، والقراءة النقديّة المختصّة أيضاً بالجامعة وغيرها من مؤسّسات البحث الأكاديميّة.

واقع النقد الأدبي العربي
* كيف ترون واقع النقد الأدبيّ العربيّ اليوم في ظل هذا الانحسار الثقافي الذي نعيشه أحياناً؟
- إنّ سؤال النقد الأدبيّ العربيّ اليوم هو بعض من سؤال الفكر العربيّ واشتغاله الراهن الذّي ما زال فكراً تجميعيّاً كمّيّاً متراكماً لا يسعى إلى التوليد المعرفيّ والإبدال، فكر نقليّ، وإن تغيّرت مراجعه ومواضعاته وأوضاعه من التراث والتقليد، تحديداً، إلى فكر الحداثة، هذه المنقوصة أو المرجأة في حياتنا العربيّة الإسلاميّة. 
لقد أمكن للنقاّد القدامى إنتاج نظريّة نقديّة، بلاغيّة ذوقيّة تنشد التّفكير بالمعنى ولأجله، مستفيدة من الدّراسات اللّغويّة الدّينيّة بمختصر مفهوم الإعجاز وجماليّة القول والسماع والإسماع (ثقافة الأذن قبل العين)، إلاّ أنّ النّقد العربيّ منذ المرحلة الإحيائيّة إلى اليوم ظلّ فكراً واصفاً اتّباعيّاً للفكر الغربيّ، وربما خاملاً، بل أحياناً متكاسلاً مكتفياً بإخراج المقولات النقديّة من مظانّها الأصليّة والزّج بها في أعمال متعسفّة على النّصوص. والسّائد النقديّ الأدبيّ ضمن السّائد الفكريّ العربيّ، لا ينفي وجود مقاربات وجهود تنظيريّة مهمّة في المقام الأول لبعد المسافة بين التنظير والتطبيق نتيجة استسهال الميل إلى التنظير أحياناً على حساب الإجراء. 
إن مشكلة النقد الأدبيّ العربيّ، شأن الفكر العربيّ عامّة، هي اجتزاء المفاهيم أحياناً لمحدوديّة معارف الناقد المختصّ الذّي يقتصر على المداخل اللّسانيّة والأسلوبيّة ويكتفي بمسبق العلوميّة (scientisme) وثابت فهمها بما شاع تسميته منذ عقود بـ «علم النصّ». فما يحتاج إليه الناقد، شأن المفكّر، هو تنوّع المراجع بالعلوم الإنسانيّة، وبالفلسفة على وجه الخصوص، مع إقرار خصوصيّة النصّ الأدبيّة، وذلك بالاشتغال على جماليّة المعنى، وليس على مفرد جماليّة الشكل، لأنّ الشكل في المُحصّل الأخير هو شكل لمعنى، كما أن المعنى لا يتحدّد أيضاً إلا بشكل وبألَق إبداعي لشكل. ولذلك حرصتُ منذ أكثر من أربعة عقود على قراءة تاريخ الفلسفة وقضاياها، بالكمّ (كمّها) بدءاً، وأي مجمل نصوصها الكبرى المرجعيّة إلى أن أدركتُ الحاجة المعرفيّة إلى قراءتها تناصّاً، منذ أعوام قليلة خَلَتْ، فتحقّقت لي الآن فائدة مزدوجة: استقدام الفلسفة إلى الأدبيّة، واستقدام الأدبيّة إلى الفلسفة بمشترك البحث في النصّ، سواء كان أدبيّاً أو فلسفيّاً وباشتراطات البحث في المعنى وجماليّته وفْقَ الخصوصيّة الأدبيّة أو الفلسفيّة.
وبهذا الجمع الحريص على التوجّه إلى التوليد المعرفيّ أدركت مواطن في النصّين الأدبيّ والفلسفيّ كانت مجهولة. أمّا الواصل بين النصّين فهو اشتغال المعنى فكراً لجمال وجمالاً لفكر وبروح التعالُق اختلافاً بين الذات المتقبّلة وذات المقروء ضمن ملفوظ له خصوصيّة أدائه. وكما يعجّ سؤال «ما هو الإنسان؟» بالكثير من الأسئلة، فالنصّ أيضاً «فسيفساء» نصوص متحركّة في داخله، بالتنادي والتصادي بين عناصر العدد، إذ لكلّ نصّ مكتبته الخاصّة، ذاكرته، ماضيه، سلالته، وله أفقه أيضاً، بل آفاقه، بالقراءة، بل القراءات.

سؤال الكتابة واللّعب؟
* كما للكتابة الأدبيّة والعمل الفنّيّ صلة وثيقة بالحريّة، فهي من اللّعب وإليه. فاللّعب صفة في الوجود عامّة، فما العلاقة بين الكتابة واللعب في مدونة مصطفى الكيلاني الأدبية؟
- حسب الفيلسوف الألمانيّ أوجن فنك (Eugen Fink) فهذا موضوع جمالي بفعل إراديّ، إذ يمارس الكاتب، شأن الفنّان عامّة، لعبة الكتابة وينكتب في الأثناء قياساً على اللّعب واللاّعب واللّعبة (jouet). ولكلّ لعب سياقه، وخانتُه الخاصّة مثل لعبة النرد، وقواعدها. ويتماهى اللاّعب ولعبه، إذ اللاّعبيّة في سياق أدائها الخاصّ تردُّد بين الجدّ والهزل، بين المأساة والملهاة، بين المعنى والعبث، بين النظام وعدم الانتظام. وكذا العمل الفنّيّ والمكتوب الأدبي شعراً أو رواية أو أقصوصة أو سيرة ذاتيّة هو ممارسة للّعب بفنّ المحاورة والمجاورة، بالمفاجئ المدهش الجديد المختلف عن سابقه من غير القطع مع الأصل/ الأصول، وإنّما اللّعب الأدبيّ والفنّي (نسبة إلى مختلف الفنون) عامّةً هو إعادة إنتاج هذه الأصول بتكرار التغيّر. ولذا تُشبّه الكتابة عند المجاورة والمحاورة بالمزح قياساً على الطبخ، كـ«مطبخ أفلاطون» توليداً لما كان وسبق من أفكار... ودليلنا على هذا المزج وهذا التوليد بما يقارب وظيفة الكيمياء، وإِنِ المادّة هنا هي لغة لأداء معنى أدبّي بأسلوب مّا وأفكار... والعمارة الروائيّة بناء، وتكثيف للحال شعراً، واقتصاد للّغة وصفاً لأحداث -أو حالات- أحداث كتابة أقصوصيّة، أو الإبداء والإخفاء تلاعباً في الكتابة السَيْر - ذاتيّة...

سؤال الكتابة والواقع؟
* ليس الواقع إلاّ مفهوماً وإِنْ كان واقعاً لحدوث، فلحظة وصفه ننتقل من الظاهرة إلى الوعي بفعل التمثُّل، فما العلاقة بين الكتابة والواقع؟
- هنا يحدث ضرب من التثبيت (fixation) الذاتيّ. ولذا فكلّ تمثّل عند الكتابة الأدبيّة هو تمثّل باللّغة وفي اللّغة، بما يصل ويُفارق معاً بين مطابقة الموصوف (dénotation) والتوسّل بالإيحاء (connotation) لمقاربته لينتفي بذلك وجود مطابقة محض أو إيحاء محض، وإنّما أساليب الكتابة الأدبيّة قائمة في الما-بين، ليظلّ الواقع حاضراً، وإنْ في العميق المختفي، بما في ذلك الموصوف الأدبيّ العبثيّ أو الغارق في سيرياليّته أو المتلبّس بالغرائبيّة أو العجائبيّة، وقد يتّضح الواقع أكثر عبثيّة وسرياليّة أدبيّة في أعمال فنيّة، مهما أغرقت في تعتيم الرمز وتجريب الأشكال والألوان غير الواقعيّة؟ فقط نحن أمام واقعيّات باختلاف الرؤى والأساليب.

لا مفرّ من الكتابة
* لماذا نكتب وهل نحن في حاجة اليوم إلى الكتابة؟
- نكتب لأنّنا في حاجة دائمة ماسّة إلى الكتابة. نكتب لأنّنا نحمل في الداخل إحساساً بنقصان أشدّ من نقصان الكيان ذاته، وبالكتابة نتوق إلى الحريّة التّي هي أفق وستظلّ أفقاً، وبنُشدانها نحيا لنكتب ونكتب لنحيا. فما أنجزناه اليوم بكتابةٍ يتجاوز الخمسين عنواناً: سبعة عشر عنواناً في القصة والرواية والشعر، واثنان وعشرون في النقد الأدبيّ والجماليّات، وعشرة في الفكر، وكتابان في المقال. وما كتبناه إلى الآن لا يفي بالحاجة إحساساً ومعرفة، لأنّه لا يؤدّي إلاّ القليل من رغبات النفس المكبوتة، كالذّي أسماه جبرا إبراهيم جبرا «المبهم الشبحي» في كتابه «الفنّ والحلم والفعل». نكتب بين ألم وسأم بمختصر فعليّة الإحساس، وِفْقَ ما خاض فيه شوبنهاور فلسفةً عند بيان حال التردّد العميق الحادّ بينهما عند التّفكير في خريطة العواطف الإنسانيّة. فنحن بالكتابة بين نفاد قوّة ونفاد، وبين فعل إنفاد قوّة وإنفاد بأفق مفتوح هو الحريّة المرجوّة، وسنظلّ ننشد هذا الأبعد الأقصى ولا ندركه، إلى آخر لحظة.
وإلى ذلك فنحن نقرأ لنكتب ونكتب لنقرأ ثم نكتب. وكأننا بمسار الكتابة (كتابتنا) نختصر، ولو قليلاً، حركة العود الأدبيّ، وإنْ بلحظتنا، ذلك أنّ الزمن في وعينا الإنسانيّ عامّة هو لحظة سرعان ما تحدث وسرعان ما تنقضي. وكما الزمن... كذا الأعمال الإبداعيّة الفنّيّة هي وجوه شتّى من المحاكاة، محاكاة حركة هذا الزمن العودويّ المتدفّق بصفة مستمرة... لذا فالكتابة، لكونها من الزمن وإليه، لها زمنيّتها الخاصّة أيضاً، فهي في الظّاهر حدّ (لحظة)، وهي في الدّلالة الخفيّة، مختصر هذا الزمن الذّي ندركه إحساساً قبل عقل.
نكتب لممارسة لعب خاصّ أيضاً، ونلعب جداً وهزلاً في الآن ذاته لندرك ما نشاء بالحياة ذاتها إلى أن يلفظنا الزمن إلى إحدى ضفافه.