إميل أمين

ذات مرة تحدث أديب فرنسا الكبير فيكتور هوغو (1802-1885)، عن المشاعر الإنسانية، فوصف الكراهية بأنها «شتاء القلوب». ويحمل المعنى دلالات البرودة والفتور، فالشتاء زمن الانكماش والتقوقع على الذات، بخلاف دفء المحبات، ودفق الدماء في الشرايين. وباتت ثقافة الكراهية في السنوات الأخيرة، وباء لا يقل خطورة عن أحدث الأوبئة التي عرفتها البشرية قبل أعوام، فيروس كوفيد- 19 المستجد، وأضحى خطاب الكراهية إحدى أخطر الكبوات التي تواجه سلام البشرية المعاصر.
ولعله من سوء الطالع عدم وجود تعريف واضح لخطاب الكراهية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فلا يزال هذا المفهوم محل نزاع واسع، لاسيما فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير وعدم التمييز والمساواة.
غير أنه وبحال من الأحوال، يمكن القطع، إن خطاب الكراهية يشمل أي كلام مسيء، يستهدف مجموعة أو فرداً، بناء على خصائص متأصلة مثل العرق أو الدين أو النوع الاجتماعي، والتي تهدد السلم الاجتماعي حول العالم.
يولدُ خطاب الكراهية، نوعاً من ثقافة الرفض للآخر، يدفع في طريق تخليق أنساق تعبيرية، مرئية، ومسموعة، ومقروءة، تنشر التمييز، وتبث العداوة بين البشر، وتحرض على العزل والإقصاء، بل وتروج لها ضد شخص أو مجموعة ذات صبغة عرقية أو دينية. ومن المقطوع به أن ثقافة الكراهية باتت تنقسم إلى قسمين: الأول: تمييزي، متحيز، متعصب، غير متسامح.
الثاني: ازدرائي، مهين، مذل، لفرد أو مجموعة، وتطفو اليوم علامة استفهام مثيرة ومقلقة: «لماذا يتسارع معدل انتشار هذه الثقافة البغيضة في حاضرات أيامنا، رغم أن الكراهية شعور إنساني، عرفته الخليقة منذ بداياتها، وغالب الظن أنه سيظل ماضياً ما بقيت البشرية على سطح الكرة الأرضية»؟
مرد الأمر كما يراه السيميائي الإيطالي الكبير، الأديب الراحل أمبرتو إيكو، نشوء وارتقاء منهم يسمى بـ «فيالق الحمقى»، أولئك الذين باتوا يتمترسون وراء شاشات وسائط التواصل الاجتماعي، صباح مساء كل يوم. لقد اقترن تزايد المحتوى الإلكتروني الذي يحرض على الكراهية مع ظهور معلومات مضللة تمكن مشاركتها بسهولة بوساطة الأدوات الرقمية، وهو ما يثير تحديات غير مسبوقة لمجتمعاتنا، حيث تكافح الحكومات لفرض القوانين الوطنية في نطاق العالم الافتراضي وسرعته الفائقة.

المستفيدون من الكراهية
في هذا الإطار، لم يعد خافياً أن مساحة هذه الثقافة المرفوضة والخطاب الممجوج، باتت تتسع وتتوزع ما بين خطاب إيديولوجي وآخر دوجمائي، وثالث سياسي، وبينها تتمدد الحركات العنصرية الشوفينية، وتتعالى الأصوات القومية أحادية الرؤية والتوجه، وجميعها طفت فوق سطح الأحداث عالمياً في النصف الأول من القرن العشرين، مما قاد العالم وقتها إلى حربين عالميتين.
وربما يتحتم علينا أن نتعرف على المستفيدين من شيوع وذيوع تلك الثقافة، وغالب الأمر سنجدهم جماعة أصحاب المصالح الضيقة، من مؤدلجين، وبراغماتيين، أو متطرفين دينياً، وجميعهم تحكمهم نرجسية غير مستنيرة، جل هدفهم رفع سقف المزايدات على المهانين والمجروحين في إنسانيتهم.
كارثة خطاب الكراهية، تتمثل في أنه يضعف النسيج المجتمعي على صعيد الدول أول الأمر، فالأقاليم تالياً، وصولاً إلى تحطيم العالم وتدميره نهاية الأمر، عبر إدخاله في دوامة العنف الأممي، تلك التي تتغذى على بذور الخوف والكراهية، وتنمو في أجواء انعدام الثقة في نفوس أفرادها، وعليه يضحى حديث الحروب أمراً متوقعاً على بؤسه وهوانه، فالأحقاد تولد الغضب، والغضب يفجر مشاعر النقمة، وهذه لا تجد لها متنفساً إلا عبر النار والدمار كوسيلة وأداة للتعاطي، ومن غير أدنى دالة على فهم حكيم أو تسامح خلاق، يمكن أن يقطع الطريق على أصحاب الشر المجاني.
ما العمل في ظل عالم يتزايد فيه فائض الكراهية، مهدداً البشرية؟ المتابع لحالات وجرائم العنف الدولي مؤخراً يدرك خلفية الكراهية المحركة لهذه وتلك؟ تبدأ المجابهة والمواجهة من عند تعزيز الحق في حرية الضمير والدين والمعتقد، مع الأخذ في عين الاعتبار أنه لن يمكن هدم أصنام الكراهية من غير إجماع كافة الزعماء والقادة السياسيين والاجتماعيين، عطفاً على القيادات الدينية في كافة الأديان والملل والنحل، والعمل على إدانة استخدام الدين كأداة للتحريض على الكراهية أو العنف، أو لتبرير التهجير والقتل والإرهاب.

الأخوة الإنسانية  
لعله يحق لنا القول من دون أدنى تزايد، إنه كلما تتسع دائرة الأخوة الإنسانية، تضيق هوة الكراهية. في هذا السياق يتذكر المرء وقفات تاريخية لرموز مهمة مثل بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، وكلاهما عمل جاهداً خلال السنوات الماضية، على بلورة رؤية إنسانية تصالحية وتسامحية، تقف سداً واحداً في وجه خطاب الكراهية وثقافة رفض الآخر، لاسيما إن كانت تنطلق من ركائز دينية أو إيمانية.
وفي أغسطس من عام 2020، وفي مناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى أعمال العنف القائمة على أساس من الدين أو المعتقد، كتب البابا فرنسيس عبر موقعه الرسمي على «تويتر» يقول:«إن الله في غنى عمن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه، لذلك أطالب الجميع بوقف استخدام الأديان في تأجيج أفعال الكراهية وأعمال العنف والتطرف والتعصب الأعمى».
أما فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف فركز في مداخلته الأخيرة في الجلسة التاريخية لمجلس الأمن، والتي جرى خلالها تبني قرار بالتصدي لخطابات الكراهية والعنصرية، على أن «الكراهية فعل مذموم، ولا ينتمي للإسلام بصلة»، مشدداً في الوقت ذاته على رفض الإساءة للأديان أو النيل من رموزها بأفعال الكراهية المقيتة، والتي يبررها البعض بأنها تأتي تحت شعار أو ستار من حرية التعبير، ومعتبراً الأمر نوعاً من الازدواجية الفكرية ودعوة صريحة غير مريحة لنشر مدارات العنف وتعميق مسارات الكراهية.
وبحسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فإن كافة الزعماء، وعلى كافة المستويات الدولية، مدعوون لتعزيز التضامن القائم على احترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وكذا العمل على تدعيم التماسك الاجتماعي وتكريس مبدأ الاحترام المتبادل بين المجتمعات. هنا يبدو جلياً القول إن هؤلاء وأولئك يمكنهم القيام بدور محوري داخل وخارج مجتمعاتهم، لنبذ العنف ورفض كراهية الغير، عطفاً على مكافحة النزعات العنصرية وكافة أشكال التعصب.

التعليم المستنير
يفهم من كل ما سبق أن المحور الأول من محاور ثقافة المواجهة لخطاب الكراهية، محجوز للفقهاء والعلماء من رجال الأديان المثقفين والمستنيرين، أولئك القادرون على مقارعة الحجة بالحجة، وتفكيك الخطابات الظلامية التي سادت في عالمنا، والدعوة عوضاً عنها إلى منظومات قيمية ذات سردية خلاقة من التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، على اختلاف الأجناس العرقية، والمشارب الفكرية.
أما الركيزة أو المحور الثاني ضمن البناء الساعي لهزيمة ثقافة الكراهية، فيتمثل في التعليم المستنير، من عند سنوات التكوين الأولى، وصولاً إلى الحياة الجامعية ومراحل الدراسات العليا.

حجر زاوية
في هذا السياق، تكون السيادة والريادة للخبراء التربويين والمتخصصين، بالشراكة مع المؤسسات التعليمية الرسمية، وبدفع ودعم من قبل المؤسسات الأهلية التي باتت حجر زاوية في حياة الشعوب المستنيرة.
فيما الركن الأعظم الثالث، يدور في فلك السيسيولوجيا المجتمعية إن جاز التعبير، والتي تتضمن الأنشطة الإعلامية والثقافية والفكرية، وهذه تتوزع عبر مسارب عدة، من عند الفنون والآداب، مروراً بالرياضة، وكافة الأنشطة الحركية الإبداعية.