إبراهيم الملا

يمشي مشيات «القطا» لي منتشر        لا ذيّره ذاير ولا حدٍّ يفلّه
حلو الروايب والذوايب والنحر           والخدّ برّاق ع بُعْد أتخايله
وإلّا ليالي البيض في نصّ الشّهر        وتشعشع الميضاح ما بين اجبله
قلبي تولّع به ومنّه منجبر               غزلي تشربك وانطوى في مغزله

يغرف الشاعر الشعبي الكبير سالم الدهماني من ماء خياله ومن معين تصوّراته، وكأنّه يغرف من وقود لا ينفد، ولا يصيبه نضوب ولا يباس، وهو وقود يضخّ الفاعلية التعبيرية في قصائد الدهماني ويمنحها هذا الدفق المسترسل من الخيالات الفارهة والثريّة والمزدحمة بالتفاصيل الدقيقة، والانتباهات الراصدة، والمقارنات اللّمَّاحة.

لو وصفنا للدهماني بأنه شاعر التفاصيل بامتياز، هو وصف يمتلك مشروعيته واستحقاقه عطفاً على منجزه الشعري المتفرّد ضمن بانوراما القصيدة النبطية في الإمارات، فهو تقريباً لا يهمل أية جزئية مرتبطة بالأشياء والعناصر والموجودات المحيطة به، كي يستثمرها ويوظفها في عمله الشعري والتخيّلي المتواصل، ذلك أنه شاعر يتوفّر على لياقة وافرة، وقدرة جامحة، وطاقة متفجرة من البوح والتعبير والوصف والقبض على الموضوع الشعري من بدايته إلى ختامه، من دون كلل أو تعب أو تنازل عن أبيات قد لا يسعفها رصيد القوافي، ومحدودية الأوزان، فهو الشاعر المغامر والمنغمس بتجربته الروحية إلى عمقها ونهاياتها، فلا يمنعه قصور أو وهن ولا يصدّه حاجز أو عائق، ولا يتنازل عن رغبته اللاهبة في تزيين بنائه الشعري، وإشعال طاقته التخيّلية لإكمال مسارها التصاعدي وتخطّي الصعاب وتذليلها والأهم من ذلك تطويعها لصالح المناخ الحكائي والمكوّن السردي في قصائده المحبوكة جيداً والمُصاغة بعناية ملحوظة ميّزته عن مجاييله وأقرانه من الرواة والشعراء.

وفي القصيدة الغزلية أعلاه يبرع الدهماني في وصف الحالة المتأرجحة للعاشق بين نواقص الهجر واكتمالات الوصال، فمع استفحال «الغياب» تبدأ «الآليات الشعرية» بالعمل بأسلوب مغاير تماماً عن تلك التي تعمل بها هذه «الآليات» لحظة اللقاء والمعاينة والحضور، فهو يرى المحبوب مجسّداً، ولكن يحيله إلى «الافتراض»، ويشبه مشيته بمشية طائر «القطا» - الحذر والمخاتل الذي يصعب الظفر به واصطياده - ولذلك يقول: «لا ذيّره ذاير ولا حدٍّ يفلّه»، أي لا يستطيع أي شخص أي يبعده عن منطقته أو يكسر الجمال الذي يتمتع به، فالذاير هو اسم ملتصق بطباع الذئب، وهو الابتعاد وعدم معايشة الإنسان، وفي المخيال البدوي المنتشر في الجزيرة العربية هناك بيت شعري مشهور مرتبط بهذا السياق، يرد فيه:
(أنا من بعد ما كنت مِغليه/‏‏ صرت «أذير» عنه كما الذيب)
أي أنني عندما كنت أحمل قيمة غالية للمحبوب، كنت قريباً منه جداً، ولكنني بعد اكتشاف مسلكه واستبصار مزاياه، استهجنته وابتعدت عنه، مثل ابتعاد الذئب عن الإنسان، فلا إمكانية اليوم للصلح والتآلف معه.
في البيت الثاني من قصيدة شاعرنا الدهماني نتلمَّس شغفه بالوصف، واستحضاره للتفاصيل الظاهرية التي تذوب تالياً في المعاني الباطنية المجيّرة على الرمز والتأويل، فهو يصف المحبوب بأصابعه المحنّاة «الروايب» وضفائره المنسدلة على نحره «الذوايب» والتماع خدّه، الشبيه بالتماع البدر في الليالي البيض بمنتصف الشهر العربي، ووسط هذا الوصف الموزّع على ضفتيّ «الشكل» و«الاستيهام» يعترف الشاعر بأزمته المتمثّلة في غياب الحلول الناجعة لفلت نظر المحبوب، ومن ثم القدرة على استجلابه وترويضه واحتوائه، وهذا ما لا يمكن أن يحدث مع شخص عصيّ على الميل والخضوع والاستسلام، ولذلك يقول الدهماني: «غزلي تشربك وانطوى في مغزله»، أي تداخلت عليه طرائق ووسائل القرب والاتصال، فأصبح مثل «المغزل» المنطوي على خيوطه المتشابكة وآماله المختلطة والمتداخلة.
يكمل الدهماني قصيدته اللافتة هذه قائلاً:
«لو بتّصل به ما بفكّر في الخِسِر/‏‏ بسدي حلالي لو يقرّوا به هلِه
وعدّاد ناموسي يعلّم في الصِفِر/‏‏ وشّو بسوّي ما تجيبه مدايله
هو عارف أقصاي وناهي في غِزِر/‏‏ وأنا شرا لصٍ أريد استحوله
قمت أقصّر الشوحة واتبّه بالأثر/‏‏ وإن شفت حدّ أخرّ مثل السلسلة»
في هذه الأبيات تتجلّي قدرة الدهماني على تخطّي الموانع الاجتماعية السائدة للتعبير عن معاناته بصدق وشفافية، مستعيناً بالشعر وما يملكه من مسارب وصفية وأنساق تعبيرية لتقديم ما يشبه الاعتراف الذاتي بالخضوع الكلّي للمحبوب، والتنازل عن بهرجة الشخصية الاعتبارية لجعل «الوصال» حالة متحقّقة وملموسة على أرض الواقع، بعيداً عن التمنيات والأحلام، لأنها أقرب للوهم منها للحقيقة، ولذلك فهو يرى نفسه في مكان الضحيّة المستسلمة لقدرها ولخساراتها، فكل ما يملكه هو «الشوق» لا غير، وفي سبيل إرواء عطش هذا الشوق، لا يبالي الشاعر بفقدان ما دونه من «مال» و«حلال»، إنه العاشق المهووس الذي يتبع أثر المحبوب أينما حلّ وارتحل، ولكنه لا يرضى في ذات الوقت أن يسبّب حرجاً لهذا المحبوب، فإذا رآه شخص وهو يتلصّص على المرأة التي يحبّ ويهوى، يتحوّل إلى ما يشبه «السلسلة» التي تسقط وتخرّ على ذاتها وتكاد تمنحي من الوجود، وفي هذا وصف بليغ، واسترشاد ينمّ عن موهبة الدهماني في التشبيه المتضامن تماماً مع ظرفه الوجداني الموشك على الانهيار والتلاشي والذوبان.
وفي وصفه لهذه القصيدة يقول الباحث الدكتور راشد المزروعي: «هذه القصيدة الغزلية الجميلة، تعتبر من أجمل قصائد الدهماني الغزلية، وقد أسميتها قصيدة «السلسلة» نظراً لتشبيه حالته وهو يختفي بين الأشجار وعن العيون، فيخرّ جالساً وبسرعة كما لو كان مثل السلسلة الحديدية، وهي تتجمّع مع بعضها البعض عند رخيها بسرعة، مما يعتبر تشبيها رائعاً لم يسبقه غيره فيه».

«ديوان الدهماني»
صدر «ديوان الدهماني» في العام 2017م عن نادي التراث وهو من جمع وتحقيق الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، ويشمل الديوان معظم أغراض الشعر النبطي المحلّي كالغزل والمدح والنصح والحكم والأمثال الشعبية والأحداث المهمة والمساجلات والمجاراة، وبرع الدهماني أكثر في قصائد السرد القصصي كما أن له قصائد في وصف الإبل.
قسّم الديوان إلى ثلاثة أقسام، وهي قصائد الوطنيات والمدح «37 قصيدة» وقصائد الغزل «25 قصيدة»، وقصائد الشكاوى والمجاريات «17 قصيدة» بإجمالي «79 قصيدة».
ويقول المزروعي في تعريفه بالديوان بأنه يقدّم صورة تتحدث عن الواقع بروح الفروسية والشهامة الممثّلة في ابن الإمارات من خلال نظرته للحياة، مضيفاً أن الديوان جاء شاملاً وطارقاً لمختلف أبواب الشعر واتجاهاته وأنماطه ومعبّراً عن عالم جمالي له صلة بالحياة والواقع، ومتطرقاً أيضاً إلى قصيدة السرد القصصي بأسلوب شعريّ شعبي جاذب ومشوّق للمتلقي.

ويذكر المزروعي أن الدهماني - رحمه الله - توفّر على موهبة شعرية كبيرة، حيث قال في أكثر من مرة في حياته، إن الشعر يأتي إليه استلهاماً، وما ذكره المزروعي هنا يحيلنا إلى ما مرّ به شعراء كبار في التاريخ من استحضار فجائي للرؤى والتخيلات والعبارات التي تتفوّق في أحيان كثيرة على ما يمتلكونه من مخزون لغوي ومن مقدرة اعتيادية على الوصف والتشبيه، وبالتالي نرى في شعرهم ما يخترق حدود المألوف والمعتاد والبديهي، فبين المفهومين المتضادين للواقع والخرافة، يأتي الشاعر الملهم ليخفف من منسوب هذا التضادّ، ويجعله متآلفاً ومتوازناً مع كل ما هو غرائبي ومعارض للمنطق والشائع والمتداول.
ويضيف المزروعي في وصفه لتجربة الدهماني الشعرية، بأنها تجربة تنطوي على دلالات عميقة وثقافة واسعة وإطّلاع كبير، تجعل الإنسان المتعلّم يقف مبهوراً أمامها، خصوصا وأن الشاعر الدهماني كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب، ويشير المزروعي إلى أن شاعرنا كان راوية من الدرجة الأولى، ويحفظ الكثير من الأشعار القديمة، والروايات والقصص الشعبية، وأحداث الزمان والتاريخ، وما قصائده ذات السرد الحكائي إلّا شاهدا على ذلك، مثل قصيدته المشهورة عن قصة «ولد العقيلي» أو «ولد العجيلي» حسب النطق الشعبي لها، وهي قصيدة طويلة يسرد فيها قصة الحب الملحمية الشعبية التي جرت بين أصغر أبناء العقيلي وبين محبوبته «إليازية» المنتمية لقبيلة بعيدة عن ديار ابن العقيلي، الذي يستخدم ناقته «صيدح» للوصول إلى «اليازية» وأخذها إلى دياره والاقتران بها، بعد معاناة طويلة يسردها الشاعر الدهماني في قصيدته بكل تفاصيلها وتحولاتها النابعة من بدايات حزينة، والمكتملة بنهايات مفرحة.

قرية «المنيعي»
ولد الشاعر سالم بن سعيد بن جمعة الدهماني في قرية «المنيعي» التابعة لإمارة رأس الخيمة عام 1927م، وكانت «المنيعي» وقت ولادة شاعرنا قرية صغيرة تقع في الجبال الجنوبية الشرقية من الإمارات، ضمن مناطق وادي القور، ووادي العجيلي، ووادي الحلو، ورافاق، وتقع جنوبها مناطق حتا ومصفوت، وكان والد الشاعر يعمل في زراعة الغليون والحنطة، وهي المهنة السائدة قديما في تلك المناطق الجبلية الوعرة والتي عمل بها شاعرنا لاحقاً، وبعد أن رسّخ مكانته الشعرية بين أبناء جيله ومعاصريه شارك الدهماني في مجلس شعراء القبائل الذي كان يبث من تليفزيونات دبي وأبوظبي، وكذلك في برامج التراث والبادية من الإذاعة، وقد عاصر تقريباً جميع شعراء النبط الكبار والمشهورين أمثال الشاعر الجمري، وبن سوقات، وأحمد الهاملي، وبن صنقور، وحمد بوشهاب، وراشد الخضر، وغيرهم، ورحل الشاعر سالم الدهماني في العام 1996م بعد صراع طويل مع المرض.