لكبيرة التونسي (أبوظبي)
«الحضيرة» تقليد متوارث راسخ في ذاكرة المجتمع الإماراتي، لطالما عكست الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والحضارية على مر الزمن، وكانت القلب النابض لكل فريج، ولا تزدهي إلا بموقد النار ورائحة الحطب. وهي عنوان الكرم وحسن الضيافة، والمجلس المفضل للسكان من الرجال والزوار القادمين من بعيد، ومنصة لأخبار المجتمع، وفيها يحلو لقاء أبناء القبيلة لمناقشة الأفكار، ومجالسها العامرة لا تكتمل إلا بالقهوة العربية وصوت الربابة والشعر الشعبي.
تبادل الأفكار
سيف راشد أحمد الدهماني سفير وخبير القهوة الإماراتية، لا يزال متمسكاً بهذا الموروث ويمارسه إلى اليوم، حيث يستقبل زواره بحفاوة وبصوت الربابة، وبرائحة القهوة مع دق حبوبها بطريقته التقليدية المعتادة التي تجذب الناس. قال: «الحضيرة» اسم مشتق من كلمة الحضور حين يحضر الأهالي ليشعروا بقيم الضيافة والكرم العربي، كصفات فُطروا عليها، فالكرم يتمثل في تقديم ما يمتلكه أصحاب المكان،
وكان أول ما يقدمونه لضيوفهم ثم لأنفسهم القهوة والتمر، ليتشارك الجميع في تناولها، موضحاً أنها كانت عبارة عن عريش مفتوح تحت مظلة أو تحت شجرة، ويُقبل عليها الزوار لارتشاف فناجين القهوة المعطرة المرفوقة بالتمر، وتبادل الأفكار والأحاديث ومعرفة أخبار الفريج والمجتمعين المحلي والدولي.
مبادئ حميدة
وأكد الدهماني أن «الحضيرة» تُعتبر منصة للفرح والتسامر، وتبادل الأحاديث حول شؤون الحياة الاجتماعية، والعمل على تعزيز روح التسامح والمحبة والأخوة بين سكان «الفريج» وبقية المناطق، موضحاً أهميتها الكبيرة في مختلف الأوقات والمناسبات، وحضورها الواسع في شهر رمضان وخارجه. وتحدث عن دورها في التواصل بين الجميع، ومد جسور التقارب بين أبناء المنطقة وحل مشاكلهم، من خلال إقامة المناسبات الاجتماعية، مؤكداً دورها الحيوي في تربية الأجيال على المبادئ والأخلاق الحميدة، لاسيما من قبل أصحاب الخبرة والحكمة، ما عزز من أهميتها في نفوس أبناء الوطن وتناقل هذا الموروث في مجالس الجيل الحالي.
دعوة مفتوحة
في مشهدية اجتماعية، يبدأ الدهماني بتحضير القهوة العربية على الحطب، باختيار أجود أنواعها ودقها في «المنحاز»، موضحاً أن هذا الصوت يُعتبر دعوة للجيران لارتشاف فنجان قهوة، ورسالة مفادها أن القهوة متوفرة وجاهزة عند هذا الجار ولا داعي لإعدادها عند باقي الجيران، توفيراً لهذه المادة المطلوبة. وفي دلالات أخرى، فإن «الدلة» عندما تكون مقلوبة على فمها، فإن صاحب المجلس «الحضيرة» لا يتوفر على قهوة وقد ذهب إلى لسوق لإحضارها، فيما الفنجان المقلوب على رأس «الدلة»، يعني الدعوة للزوار ليتفضلوا بتناول القهوة، بالرغم من غياب صاحب المجلس.
«سنع»
لتقديم القهوة أصول و«سنع» يحرص أهل الإمارات على تعليمها للأبناء، إذ إن ضيافة القهوة تبدأ من يمين المجلس. يقدمها الصبيان أو الرجال الأصغر سناً للضيف، باليد اليمني التي تُحمل فيها الفناجين، وفي اليد اليسرى «الدلة»، ويدورون بعدها على بقية الضيوف، ويتابعون إذا طلب أحد الضيوف المزيد. وأوضح الدهماني أن القهوة والتمر حاضران دوماً في مجلس «الحضيرة» الذي يستقبل الضيوف من أهل «الفريج»، ويجتمعون غالباً وقت الضحى وبعد صلاة العصر والمغرب وبعد صلاة التراويح. كما أن الرجال كانوا يتناولون إفطارهم خلال شهر رمضان المبارك في جماعة بـ«الحضيرة».
تقاليد عريقة
ضمن عادات وتقاليد أصيلة، يستحضر راشد الدهماني صوراً ومشاهد اجتماعية ارتبطت بالذاكرة الشعبية لأهل الإمارات. رافقت مجالسهم وارتبطت بالكرم وحسن الضيافة، حيث يُعتبر هذا الموروث مكوناً أساسياً للهوية، وعاملاً حاسماً لمد جذور الانتماء، ويعمل على إحياء التراث والحفاظ عليه والتعريف به، عبر إعداد القهوة العربية التي تتمتع بمكانة خاصة في التراث العربي.
طقوس أصيلة
لا يزال الدهماني يمارس طقوس تحضير القهوة، في دلالة على أهمية الحفاظ على هذا الموروث، ويجلس بمكانه المفضل «الحضيرة»، الذي تجتمع فيه الممارسات التراثية من كرم وضيافة، و«سنع» تقديمها، ما يعكس التجربة الحية ويجسد عمق التقاليد وأصالتها.