دينا محمود (لندن)

في وقت يزعم فيه رجب طيب أردوغان، أنه يعتزم جعل 2021 عاماً لـ«الإصلاحات السياسية والديمقراطية»، تفضح الممارسات القمعية لنظامه، حقيقة السياسات التي ينتهجها الرئيس المستبد لتركيا، حيال معارضيه، وعلى رأسهم الأحزاب والقوى التي تبدي دعماً للأقلية الكردية في البلاد، وهو ما يجعل 2020 «عاماً للعصف غير المسبوق» بالمعارضة التركية.
فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، لم يتورع نظام أردوغان عن التنكيل بهؤلاء المعارضين والزج بهم في السجون، حتى وإن كانوا قد فازوا بمناصب محلية بالانتخاب، وذلك عبر استغلال هيمنته على القضاء، وحرمانه لخصومه السياسيين، من أبسط حقوقهم القانونية المشروعة.
وأدى ذلك، بحسب تقديرات مستقلة، إلى أن يبلغ عدد المعتقلين والمحتجزين من المنتمين لحزب معارض واحد، وهو حزب «الشعوب الديمقراطي» نحو 16 ألف شخص، من بينهم مسؤولون محليون، عُزِلوا قسراً من مناصبهم، وأُلقي بهم ظلماً خلف القضبان.
وفي تصريحات نشرتها صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية، قال المحللون: إنه على الرغم من أن «النظام القضائي التركي استُخْدِم سلاحاً طوال التاريخ المضطرب للبلاد، لتعزيز سياسات معينة أو إجهاض توجهات أخرى، فإن قمع السلطات بات، بحسب معارضي أردوغان، لا سابق له، منذ أن أحكم هذا الرجل قبضته على الحكم».

سياسات قمعية
وأشار المحللون إلى أن هذه السياسات القمعية استهدفت بشكل خاص «حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يشكل أكبر تهديد لسلطة أردوغان، وهو ما جعله يتعرض لأعمال لانتقامية وحشية». فمن يُحاكمون من أعضاء هذا الحزب، صاروا يمْثُلون أمام قضاة قليلي الخبرة مُعينين من جانب نظام أردوغان.
ونقلت «الأوبزرفر»، وهي النسخة الأسبوعية من صحيفة «الجارديان» واسعة الانتشار، عن حسيب كابلان، المحامي والسياسي الكردي التركي البارز، قوله: إنه لم ير منذ «الانقلاب العسكري»، الذي وقع في البلاد عام 1980، سلوكاً قمعياً لا يرحم، مثل ذاك الذي تتبعه حكومة حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، مضيفاً: ففي الفترات السابقة، كان بإمكاننا الدفاع عن موكلينا على الأقل أمام المحاكم. وتابع: أما الآن، فنحن بإزاء سلطة تسعى للسيطرة، حتى على النقابات المستقلة للمحامين.
وأما عدالت فيدان، عمدة مدينة سيلوبي التابعة لمحافظة شرناق التركية، فقد قالت: إن 2020 كانت سنة «موحشة» بالنسبة لها، بفعل الممارسات القمعية التي تعرضت لها خلالها، هي ونظراؤها من ساسة حزب «الشعوب الديمقراطي»، على يد أردوغان وحاشيته الحاكمة.
فبعدما كانت هذه السيدة من بين 65 سياسياً آخر ينتمون لهذا الحزب، فازوا بمناصب محلية على مستوى تركيا بأسرها، لم يعد متبقياً منهم سوى خمسة رؤساء بلديات فقط تُركوا في مناصبهم، بينما تم عزل الباقين أو سجنهم، وعينت السلطات مسؤولين موالين لها محلهم.
وفي تصريحاتها لـ«الأوبزرفر»، قالت فيدان: «أستيقظ في كل يوم، شاعرة بالقلق من أن يحدث لي هذا أيضاً، ويدور في خلدي أن اليوم هو دوري أنا.. فالقانون لم يعد يعني أي شيء هنا، إذ يمكن طردي من منصبي، أو الزج بي في السجن، بتهم ملفقة تربطني ظلماً بالإرهاب، أو عبر الاستعانة بشهود مزيفين».

شعبية المعارضة
وأكد المحللون الغربيون أن الضربات المتتالية التي توجهها آلة القمع التركية، لحزب «الشعوب الديمقراطي»، الذي تأسس عام 2012، لم تحرمه حتى الآن من قاعدته الشعبية، خصوصاً أنه نجح طيلة السنوات الماضية في جذب شرائح مختلفة من الأتراك، دون الاقتصار على الناخبين ذوي الأصول الكردية وحدهم، وهو ما أدى إلى أن يصبح ثالث أكبر حزب سياسي في البلاد، لا سيما بعد أن بزغ نجمه، خلال ما يُعرف باحتجاجات متنزه «جيزي» في إسطنبول عام 2013.
وفي السنوات التالية، نجح الحزب المعارض في الحصول على النصاب اللازم لدخول البرلمان، والتغلب على العقبات التي وضعها الحزب الحاكم، لحرمان أحزاب المعارضة الصغيرة أو المؤيدين للأكراد من نيل التمثيل النيابي.
وفي محاولة لعرقلة هذه النجاحات، انسحب نظام أردوغان من محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني، لتشتعل أعمال العنف من جديد في جنوب شرق البلاد. وشنّ النظام التركي حملة اعتقالات ضد ساسة حزب «الشعوب الديمقراطي» وأنصاره، شملت زعيمه السابق صلاح الدين دميرطاش، الذي تتجاهل أنقرة حتى الآن المطالبات الدولية بإطلاق سراحه.
ويندرج في هذا الإطار أيضاً، الإعلان في وقت سابق من الشهر الجاري، عن تأسيس كيان سياسي جديد باسم «الحزب الديمقراطي الكردي» في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية، وذلك بتمويل من مصادر مقربة من الحكومة، بهدف استمالة الناخبين الأكراد ذوي التوجهات المحافظة.

صفعة مدوية
رغم ذلك، لا ينسى نظام أردوغان الصفعة المدوية التي تلقاها من ناخبي إسطنبول العام الماضي، عندما انتخبوا مرشح المعارضة رئيساً لبلدية المدينة، بعدما أبدى حزب «الشعوب الديمقراطي» دعمه بشكل غير رسمي لذلك المرشح، وهو ما أظهر أن قبضة الديكتاتور التركي لم تُحكم بعد على البلاد، رغم أنه يتولى الحكم فيها منذ أكثر من 16 عاماً. ويقول المحلل السياسي التركي سليم كورو: إن سر إحجام نظام أردوغان عن حظر أنشطة حزب «الشعوب الديمقراطي» حتى هذه اللحظة، يعود إلى رغبة النظام في السعي لاستغلال ذلك لتفتيت صفوف المعارضة. ولكنه أكد أن السلطات التركية لن تتورع عن التصدي لذلك الحزب بكل قسوة، إذا شعر بعزمه على خوض معركة انتخابية حقيقية.

مليون منشق
تصاعدت خلال 2020 الانشقاقات الداخلية في حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا، وخصوصاً بين الأعضاء رفيعي المستوى الحزب، ليقترب بذلك عدد المنشقين عن الحزب الحاكم من مليون عضو.
ودفع أردوغان، ثمن مغامراته غير المحسوبة وأطماعه في المنطقة، من شعبيته الداخلية، لاسيما اختياره معارك غير ضرورية مع قادة العالم وشن حروب مكلفة، وفقاً لموقع شبكة «دبليو آي آون إن» الهندية، الذي أشار إلى أن حلفاء الرئيس التركي بدؤوا في التخلي عنه، الأمر الذي يؤدي إلى تفكيك حزبه، وفقدان الناخبين ثقتهم في نظامه، وسجن آلاف من معارضيه.
وأوضح التقرير أن أخطاء أردوغان العديدة شكلت خطراً واسعاً على حكمه، لافتاً إلى حادث شهير وقع قبل عدة أسابيع عندما قرر بولنت أرينك، وهو عضو مؤسس في الحزب الحاكم في تركيا، ونائب رئيس الوزراء السابق، مغادرة الحزب.
ووفقاً للتقرير، كان هناك خلاف بين أرينك، الذي كان من الدائرة المقربة جداً للرئيس، وأردوغان حول الإصلاحات، كما أراد أرينك إطلاق سراح سجينين رفيعي المستوى، لكن أردوغان لم يكن في حالة مزاجية تسمح له بالموافقة على هذا الأمر، وفي الواقع، اختار معركة جديدة، حيث اتهم الرئيس التركي علانية نائبه بالوقوف مع «الإرهابيين».
وأضاف التقرير: «بدأت الانشقاقات، في نهاية عام 2019، وتواصلت في 2020، إذ فقد أردوغان 840 ألف عضو، كما تركه عضوان رئيسان في حزب أردوغان، وهما علي باباجان وزير الاقتصاد السابق، وأحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء السابق». وأدى انشقاقهما إلى مزيد من المغادرين، وكلما غادر قيادي كبير في الحزب، اصطحب معه أنصاره.

هروب جماعي
بدأت عمليات «الهروب الجماعي» تظهر في البيانات الرسمية لحزب أردوغان. وكان عدد أعضاء حزب العدالة والتنمية يبلغ ما يقرب من 11 مليون عضو، لكن في عام واحد، انخفضت الأرقام إلى أقل من 10 ملايين. ولم يعد بمقدور أردوغان تجاهل الانشقاقات؛ لذلك، حاول المراوغة كعادته وتبرير الأمر في خطاب ألقاه، معتبراً أن 95 في المئة من الأعضاء المنشقين «ماتوا بالفعل». لكن ادعاءاته وأكاذيبه لم تنجح في التغطية على فشله الحزبي، حيث دشن اثنان من قيادات الحزب المنشقين أحزاباً خاصة بهما. وأدى ذلك إلى انقسام قاعدة الناخبين، بشكل كبير، في «حزب العدالة والتنمية»، وهو ما كشفته استطلاعات الرأي في الشهرين الماضيين.

تدهور
في أكتوبر الماضي، أعرب 78 في المئة من الأتراك عن اعتقادهم بأن الوضع الاقتصادي للبلاد يزداد سوءاً، وشعر 58 في المئة ممن أيدوا حزب أردوغان أن الاقتصاد يعمل بشكل سيئ، كما انخفضت تقييمات الرئيس.
وفي الشهر نفسه، انخفض التأييد لحزبه إلى 28.5 في المئة. وفي نوفمبر الماضي، لم يوافق 46.6 % من مواطني تركيا على أداء أردوغان.
وأكد تقرير «دبليو آي آون إن» أن كل المعطيات تفيد بسقوط وشيك لنظام أردوغان، إذ يمثل نموذجاً للزعماء الذين تقودهم مطامعهم التوسعية إلى كوارث مثل ما حدث مع هتلر وموسوليني من قبل.
ويخسر أردوغان حلفاءه في وطنه، وأصدقاءه في الخارج، ويفقد ناخبين حتى في الوقت الذي كانت خزائن بلاده تخسر المال.
وهذه علامات نموذجية لسقوط القادة المستبدين، وفقاً للتقرير، الذي أشار إلى أنه في الوقت الذي من المفترض أن يلبي فيه الرئيس احتياجات بلاده، يعمل أردوغان على تغذية أحلامه، مشدداً على أن السقوط هو نهاية كل رئيس يشكل سياسات بلاده على أساس أطماعه الشخصية.

أنقرة.. بين الفقر والعقوبات
شادي صلاح الدين (لندن)

بدأت عواقب معاناة الاقتصاد التركي في 2020، جراء السياسات المتهورة للرئيس رجب طيب أردوغان في التأثير بشكل مباشر على حياة المواطنين الأتراك، الذين وصلوا إلى نقطة الانفجار على ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي يبدو أنه سيكون لها القول الفصل في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وذكر تقرير موسع لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية واسعة الانتشار أن الأتراك يكافحون مع انخفاض العملة وارتفاع التضخم، وخاصة مع وصول الجائحة للبلاد في مارس الماضي، وهو ما أدى إلى تفاقم الركود العميق في البلاد. وبعد تسعة أشهر، ومع اجتياح موجة الفيروس الثانية البلاد، اتضح أن جزءاً كبيراً من السكان غارقون في الديون، وأنهم يعانون الجوع بشكل متزايد. وكشفت شركة «ميتروبول ريسيرش» للأبحاث في استطلاع حديث، أن 25 في المئة من الأتراك قالوا إنهم لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية. وبالنسبة لأردوغان، الذي لفت الانتباه هذا العام في الداخل والخارج بسياسة خارجية عدوانية وتدخلات عسكرية أفقدت البلاد توازنها، وصلت الأمور فجأة إلى ذروتها في نوفمبر.
وتعرضت الليرة التركية لضربة قوية بسبب انخفاض قياسي في قيمة العملة، بانخفاض أكثر من 30 في المئة مقابل الدولار خلال العام. ونضبت احتياطيات النقد الأجنبي، فيما قالت وكالة «موديز إنفستور سيرفيس»، مؤخراً: إن البلاد تواجه الآن أزمة في ميزان المدفوعات.
وتأتي الأزمة في الوقت الذي يوشك فيه أردوغان على مواجهة أزمة مع وصول جو بايدن للبيت الأبيض، بينما يترك الرئيس دونالد ترامب منصبه الشهر المقبل، وفقاً للصحيفة، التي أضافت أن تركيا تواجه بالفعل عقوبات من الولايات المتحدة لشرائها نظاماً دفاعاً صاروخياً روسياً، ومن الاتحاد الأوروبي للتنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لقبرص. ومع وصول بايدن للسلطة يبدو أن الأمور تزداد صعوبة على أردوغان.
التحركات التي اتخذها أردوغان خلال الشهرين الماضيين لاحتواء الأزمة الصعبة في بلاده جاءت متأخرة، وفقا للخبراء، الذين أكدوا أن مناورات أردوغان المختلفة «قليلة ومتأخرة للغاية». وأكدت الصحيفة الأميركية أن وزير المالية السابق، بيرات البيرق، قد يكون كبش فداء مناسباً. لكن سقوطه الدراماتيكي واختفاءه التام من الحياة العامة يشير إلى تصحيح أكثر خطورة للمسار. يبدو أن الأزمة الاقتصادية وعواقبها على مصير أردوغان أصبحت مصدر قلق بالغ.
وقال محمد علي قولات، المتخصص في إجراء استطلاعات الرأي للأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان: إن الرئيس يراقب استطلاعات الرأي بجدية.
وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن شعبية «العدالة والتنمية» انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ 19 عاماً، حيث تراجعت نسبة التأييد إلى نحو 30 في المئة، وفقاً لـ«متروبول». وأوضح التقرير، وفقاً لإحصائيات واستطلاعات الرأي العام، أن فرص إعادة انتخاب أردوغان أصبحت تقل عن 50 في المئة.