واشنطن (الاتحاد) 

كان عام 2020، بكل المقاييس عاماً مروعاً، انتشرت خلاله حالات الموت والاضطراب في جميع أنحاء العالم. ولكن إذا كان هذا يمثل تحدياً حقيقياً لا يمكن إنكاره في الوقت الحالي، فكيف يبدو للمؤرخون إذا نظروا إلى الوراء لنصف قرن من الآن؟
يقول هال براندز، الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة «ييل» الأميركية: «ربما نتذكر الحرب العالمية الثانية على نحو مختلف كثيراً الآن، ونتساءل، على سبيل المثال، ماذا لو كانت أميركا قد انسحبت ببساطة من العالم وانكفأت على نفسها بعد انتهاء ذلك الصراع، بدلاً من المشاركة على نحو دؤوب بلا كلل لتشكيل النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب؟».
ومع ذلك، فمن المؤكد أن أحداث عام 2020 سوف تلقي بظلالها على الجهود المستقبلية لتتبع مسار أحداث القرن الحادي والعشرين، وربما يكون العام الذي بدأ فيه النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ينهار، أو ربما يكون العام الذي شهد «ميلاد نظام عالمي جديد»، بحسب براندز.
ومن السهل تخيل الطريقة التي سوف ينظر بها المؤرخون في يوم ما لعام 2020 على أنه بمثابة بداية لعصر جديد. ففي غضون بضعة أشهر، تسببت صدمات استراتيجية تحدث مرة كل قرن، في ترنح العالم في مساره.
وأودت جائحة عالمية بحياة الملايين، وأصابت بالجمود مجتمعات في عدة قارات، وشهد العالم انهياراً قوياً للعولمة من خلال إغلاق الحدود وتوقف السفر فعلياً، بينما عجزت الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبري، عن تقديم الكفاءة التكنوقراطية وتحقيق التعاون العالمي.
وعلى الجبهة الجيوسياسية، سعى عدد من الدول، على عدة جبهات، إلى اقتناص الفرص وتحقيق مكاسب.
وما جعل عام 2020 صادماً بشدة هو أنه جاء عقب عقد مؤلم للغاية، شهد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وارتفاع الشعبوية، وهو ما شكل تهديداً للتكامل الأوروبي، وهو أحد المحاولات البارزة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
واعتبر براندز أن العولمة واجهت رياحاً عاتية في المشهدين السياسي والجيوسياسي، إذ أصاب الجمود منظمة التجارة العالمية، وزاد صعود الصين الاقتصادي، وأصبحت أميركا مؤيدة، على نحو يكتنفه الغموض، للتجارة الحرة.
ومن هذا المنظور، ووفقاً لبراندز، فإن الصدمات التي تسبب فيها عام 2020 لم تكن مجرد صدمات غير متوقعة. وإنما كانت أزمات كشفت انتشار الترهل داخل المؤسسات والترتيبات التي أسست النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
وحقبة سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، بدت في كثير من الأحيان وكأنها نهاية المطاف بالنسبة للقوة الأميركية واقتصاد العالم الحر، وسط صدمات النفط، ونهاية نظام «بريتون وودز» المالي، وانتكاسات جيوسياسية كانت بمثابة عقاب. ومع ذلك، أدت الأزمات إلى الارتقاء وليس إلى السقوط.
وشنت الولايات المتحدة بسرعة هجوماً جيوسياسياً مضاداً مدمرا ضد «الاتحاد السوفيتي» السابق، الذي كان متمدداً بشكل كبير، وتعاونت مع الحلفاء الرئيسيين لإنشاء مؤسسات جديدة، مثل «مجموعة السبع»، لتسهيل التحول إلى نظام أكثر عولمة، وتبنت الدول عبر الغرب إصلاحات مؤيدة للسوق أدت إلى ازدهار متجدد.
ويقول براندز: «نتيجة لذلك، فإننا ننظر الآن إلى عام 1979، وهو العام المروع الذي شهد اندلاع الثورة الإيرانية، والغزو السوفيتي لأفغانستان، وركوداً عالمياً كان بمثابة عقاب، على أنه كان بمثابة بداية جديدة للنفوذ الأميركي، وربما سيكون عام 2020 لحظة ميلاد عصر جديد».
وكان هذا العام بعد كل شيء، هو العام صحّح فيه النظام السياسي الأميركي نفسه، بعد مغازلة خطيرة مع «الشعبوية شبه الاستبدادية لتيار اليمين»، بينما رفض أيضاً «شعبوية اليسار» التي تزعزع الاستقرار.
وشهد العام جهوداً، بقيادة الحلفاء الأميركيين، لبدء إصلاح المنظمات الدولية المحتضرة ووضع آليات جديدة، مثل توسيع مجموعة السبع، من أجل تحقيق تعاون ديمقراطي أعمق وأوسع نطاقاً.
وأوضح براندز أن حقبة ترامب لم تنته بقطيعة عبر المحيط الأطلسي، ولكن بمناقشات أولية تتعلق بكيفية التعاون بشكل وثيق لمواجهة التهديدات المشتركة.
كما أدى مرض «كوفيد- 19»، الذي يسببه فيروس كورونا المستجد، إلى تسريع وتيرة الجهود للتحول إلى نمط أكثر ذكاءً للعولمة من منظور جيوسياسي، وهو نمط لا تسعى فيه الدول الديمقراطية إلى إعادة عمليات الإنتاج، التي كانت قد نقلتها للخارج، إلى أراضيها، ولكن ببساطة إلى إخراج سلاسل الإمداد المهمة من الأنظمة المعادية المحتملة.
وقال براندز: «لا يمكننا حتى الآن معرفة المسار الذي سيتخذه العالم بالفعل، والتاريخ يتضمن احتمالات، حيث كان من الممكن أن يؤدي تغيير نحو 45 ألف صوت في أربع ولايات إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب، على نحو كان من شأنه دفع الديمقراطية الأميركية والسياسة الخارجية إلى مسار مختلف تماماً عن المسار الذي ربما يسيران فيها إبان عهد الرئيس المنتخب جو بايدن».
وقال براندز: «سواء كان خيراً أو شراً، سننظر إلى عام 2020 باعتباره مرحلة مفصلية في التاريخ، فهو العام الذي أرسل موجات صدمة من خلال النظام القائم، وبالتالي غيّر شكل العالم على المدى الطويل، وهذه الأزمات الشديدة يمكن أن تدفع النظام العالمي نحو الدمار أو التجديد، لكنها بالكاد يمكن أن تفشل في ترك بصمة دائمة».