أُرغمت كافة المؤسسات والقطاعات، وحتى الدول، على تجاوز حالة الصدمة من وباء كورونا بسرعة قياسية، شارعةً بنفض الغبار عن استراتيجياتها، وأهدافها، ومعاييرها، ومتحولةً إلى مرحلة جديدة تقنية رقمية بمعظم مقاييسها، بعدما كانت تحبو بخطواتها نحو التكنولوجيا على استحياء منها. وهذا كان أحد الجوانب الساطعة والمبشرة بمستقبل «الإتقان»، وصعود جودة البناء المؤسساتي، من بين حطام كورونا!
وفي هذا الصدد، وجدت مؤسسات التعليم عامةً، والتعليم العالي خاصةً، تغييرات وتحديثات واسعة النطاق، لم يكن يفصلهم عنها إلا الإرادة المشحوذة «قسراً» بفعل الحظر المنزلي الإلزامي، ووجوب الاستمرار في العملية التعليمية إزاءه، لإيصال الطلبة إلى بر النجاح، مع نهاية العام الدراسي، دون تقصير في إيصال المعلومات، أو تراخٍ في تحديد الواجبات، أو تقييم الامتحانات. وقد ألقت هذه الجائحة بظلالها على قضية التعليم العالي عن بُعد بكافة مستلزماته، وضروراته، هذه القضية المبيتة رغم ضرورتها، التي إن لم تكن تماشياً مع الجائحة، فهي تناغماً مع الريادة العالمية للثورة الرقمية والتكنولوجية هائلة السرعة، المستمرة في التغيير، حتى في زمن كورونا الذي وقف بسببه العالم على قدم واحدة، ما عدا هذا المجال «الرقمي» الذي قفز عن المعوقات واسترسل في تطوره.
التعليم العالي جزءٌ لا يقبل أن يتجزأ من واقع التعليم القادم؛ أي (الجديد). ورغم اختلاف الظروف، والتحديات والإكراهات، ولكنه يبقى قضية حساسة وخطيرة، وتجر خلفها الكثير من القضايا القابلة للتصاعد إذا ما لم يتم إيلاءه ما يستحق، فالتعليم القادم في حلته الجديدة، سيخلق آفاقاً إيجابية واسعة وحتمية، تمكّنه من اتساع الانتشار والتأثير، خاصة في مواجهة تيارات التطرف والكراهية، التي استعمرت مساحة واسعة على الفضاءات الرقمية، والتي حان الوقت لتحريرها من هذه الأفكار المسمومة، وفتح آفاق أكثر إيجابية وإفادة للأجيال الشابة والصاعدة، لتجد فيها بيئة صحية للتنمية الفكرية، والإثراء الثقافي، والاكتناز بمختلف العلوم والتحصيل العلمي والأكاديمي، بعيداً عن قيود الزمان والمكان، وصعوبات الاتصال وغيرها. 
ولتقريب هذا الواقع الملح من منصات التعليم، ومؤسسات علمية، وحتى جهات مشرفة ومقيمة، لا بد من إيجاد تشريعات مستحدثة تتناغم والتعليم الجديد، وهذا ما يتلاءم ورسالة المؤسسات التي قدمت جهوداً جبارة، حاملةً ومتحملة للمسؤولية المترتبة عليها، كـ«المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة»، الذي لا ينفك مؤكداً على كافة الأدوار الدافعة بنهضة الإنسان وتقدم الدول، ومنها الدور الريادي للتعليم.

كما استحقت عدة تجارب متميزة العناية الحثيثة، والاهتمام بمعطياتها، التي يسهب أفرادها في المشاركات وتقديم المقترحات على الصعيد الفردي، والمؤسساتي، لانعكاسها الحتمي في إثراء الخطط القادمة الظمأى للمزيد من التأطير والتوجيه، مختصرةً أميالاً من المسافات، والجهود، والتي تكفل بإنتاج نموذج أقرب ما يكون للمثالية من خلال الجهد والفكر والرؤى المشتركة من ذوي الخبرة.
التعليم الجديد سيحمل معه حتماً حقيبة غنية من معايير الجودة والإتقان المستحدثة، والمطورة للتعليم العالي، تتناغم ومجريات ومتطلبات العالم الحديث، الذي يحتم الاستجابة للحقبة القادمة، فالعلم هو ما نفع الإنسان وليس ما تم تحفيظه، وتلقينه دون أن تروى عقول الطلبة به، وهذا لا يلغي الإنجازات القيمة السابقة في المجال التعليمي، ولكنه ينبه لضرورة ملازمة الاستحداث، والاستمرارية في المواكبة، دون الادعاء بالوصول لنموذج كامل، وكما يقول ابن قتيبة: «لا يزال المرء عالماً ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد بدأ جهله». 
إن التعليم والتعليم العالي بعد هذه الأزمة، لن يقبل ارتداء ثوبه القديم، فلا يمكن فصل الطلبة ومعلميهم ومؤسساتهم التعليمية عن العالم الواقعي، الذي أصبحت إحدى ضروراته مواكبة العالم الافتراضي، وامتلاك أدوات التعليم عن بُعد بكافة مستلزماته، وضروراته، وتقنياته. ورغم الاختلاف في إيلاء أحد أطراف العملية التعليمية دوره على مقياس «المهم والأهم»، تبقى كافة الأطراف أساساً في معادلة نجاحها، وفي تثبيت أركانها، للصعود لغد مغاير ومبهر، مشكلاً فيصلاً زمانياً تفاخر به الأجيال، فالتعليم منذ الأزل هو «ماكينة» صناعة إنسان، وتشكيل فكر، وهو الإيمان الذي تجمع عليه البشرية بأنه بوصلة نحو الإنسانية المعاصرة المتحضرة، المسهبة في الاستزادة والنهل من شتى منابع المعرفة والتطوير، والبعيدة كل البعد عن «العلم الزائف» كما فسره المفكر الأيرلندي «جورج برنارد شو»، الذي رفض استلام جائزة نوبل، كي لا يُشعِر ذاته بالوصول لمرحلة «الكمال» في التحصيل والتعلم، وتناسيه خطر الجهل، قائلاً عن الجائزة: «إن هذا طوق نجاة يلقى به إلى رجل وصل فعلاً إلى بر الأمان، ولم يعد عليه من خطر»، مما يخلق حوافز عدة نحو غد خالٍ من الخطر، مشحوذاً بغد التقنيات اللامحدودة. 
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة