استلهم البابا فرنسيس وثيقة الأخوة الإنسانية في زيارته إلى العراق عموماً، وفي كلماته التي ألقاها في بغداد وأور وأربيل بصفة خاصة. ذهب بابا الفاتيكان إلى العراق حاملاً رسالة الأخوة الإنسانية، ومستلهماً الوثيقة التاريخية التي وقّعها مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في ختام مؤتمر كبير احتضنته أبوظبي في أول فبراير 2019، في لحظة تشتد حاجة العالم فيها إلى استعادة المعنى العميق لهذه الأخوة. وذكر الحبر الأعظم تعبير الأخوة الإنسانية عدة مرات، وعبّر عن معاني هذه الأخوة مرات أكثر، في كلماته التي ألقاها خلال هذه الزيارة، وفي لقاءاته التي عقدها، وفي تفاعله مع الوضع العراقي على مدى ثلاثة أيام. كما استخدم تعبيرات مشتقة من مفهوم الأخوة الإنسانية، ومُعبّرة عن مدى سعة معناها. فقد تحدث، على سبيل المثال، عن العيش الأخوي في كلمته أمام كبار المسؤولين العراقيين في قصر بغداد الرئاسي، ثم دعا الحاضرين معه في كنيسة سيدة النجاة لأن يزرعوا «بذور المصالحة والعيش الأخوي معاً». كما استخدم تعبير الوحدة الأخوية، وقال: إن «المجتمع الذي يحمل سمة الوحدة الأخوية هو مجتمع يعيش أفراده متضامنين»، وكذلك تعبير الحوار الأخوي عندما أكد أن بالإمكان «فك العُقَد بالمغفرة والحوار الأخوي». وتحدث أيضاً عن التضامن الأخوي، وروح الأخوة.
وجاء تأكيده المتكرر على العلاقة الوثيقة بين الأديان الإبراهيمية في سياق رسالة الأخوة الإنسانية هذه. فقد تحدث عن «أبينا إبراهيم»، وعن «العلاقة بين الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام». وكان حرصه على زيارة مدينة أور التاريخية في جنوب العراق تعبيراً عملياً عن معنى الارتباط بين الأخوة الإنسانية، والأديان الإبراهيمية. فمن هذه المدينة، انطلق خليل الله ونبيه إبراهيم عليه السلام، ليصبح أباً روحياً للمؤمنين بالأديان التوحيدية كلها. ولهذا، أقام البابا صلاة تاريخية في الموقع الذي يُعتقد أنه مكان مولد إبراهيم، بمشاركة ممثلين عن الأديان والطوائف العراقية جميعها، لتأكيد الأخوة بينها.
وهكذا، على مدى ثلاثة أيام سعى رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم إلى زرع بذور الأخوة الإنسانية في قلوب أبناء العراق وعقولهم لوضع حد لصراعات غرقوا فيها. وبدت «وثيقة الأخوة الإنسانية» حاضرة في سعيه هذا، بدءاً من مقدمتها التي تؤكد أن «الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخاً له»، وأن «المؤمن مدعو للتعبير عن الأخوة الإنسانية»، وحتى ختامها الذي حمل دعوة صادقة «للمصالحة والتآخي»، ونداءً حاراً «لكل ضمير حي ينبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، ولكل محبي التسامح والإخاء»، لأجل أن تكون هذه الوثيقة «رمزاً للعناق.. لنتعارف ونتعاون ونتعايش كإخوة متحابين».
وحمل البابا فرنسيس هذه الرسالة إلى العراقيين، وعبّر عن جوهرها في وصاياه الكثيرة لهم، والتي نكتفي بثلاث منها تربطها عُروة وُثقى؛ الأولى هي احترام الاختلاف: «إن الاختلاف يجب أن يشجع على التعاون في وئام في الحياة المدنية، بدلاً من أن يثير الصراعات». وبموجب هذا الاحترام، نرى «الآخر كقريب لنا ورفيق للدرب».
والوصية الثانية هي أن «التعددية الدينية والعرقية والثقافية السليمة يمكن أن تساهم في ازدهار البلد وانسجامه». وترتبط هذه التعددية عنده بالأخوة الإنسانية من خلال لوحة مُلهمة رسمها بكلماته، عندما دعا لأن نرى الجماعات المتعددة «مثل الخيوط الكثيرة الملونة التي، عند تشابكها، تُصبح بساطاً واحداً جميلاً».. «وتشهد على أخوّتنا». ويحدث هذا وفق تصوره من خلال «حوار صابر وصادق يحميه العدل واحترام القانون».
أما الوصية الثالثة فهي السلام ورفض العنف: «فلتصمت الأسلحة، ولنضع حداً لانتشارها هنا، وفي كل مكان». هكذا أوصى العراقيين ودعا لهم بأن يعم السلام أرجاء بلدهم، وصارحهم في الوقت نفسه بأن هذا يتوقف عليهم، منادياً إياهم، وغيرهم في العالم أيضاً: «كفى عنفاً».
وفي هذا السياق، استذكر ضحايا العنف في كنيسة سيدة النجاة، التي تعرضت لهجوم إرهابي في عام 2014 راح ضحيته أكثر من مائة شخص بين قتيل وجريح، وقال: إن «موتهم يُذكَّرنا بأن التحريض على العنف والكراهية وإراقة الدماء لا يتفق مع التعاليم الدينية»، ذاكراً معهم «كل ضحايا العنف المنتمين إلى مختلف الأديان»، ومؤكداً أنه «لا يجوز استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والإرهاب».
لقد بلَّغ بابا الفاتيكان رسالته للعراقيين بصدق ومحبة، وأكدت زيارته أنه أمين على معاني الأخوّة الإنسانية التي بلورها مع شيخ الأزهر في رحاب أبوظبي قبل عامين.