أخذتُ علماً بالطبع قبل مدة بأنّ العام 2021 يصادف الذكرى الخمسين لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة. وما غاب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس الدولة عن الذكر والذكرى، لكنّ ذكراه تعود لأقصى درجات التوهُّج هذه الأيام، لأنها ذكرى إنجازٍ تاريخي ما يزال في ذروة الحضور والازدهار، بفضل عمله الحكيم والشجاع، ومتابعة خلفائه ومبادراتهم وانطلاقهم الذي لا يتوقف ولا يهدأ على مدى العقود الماضية. لقد صار الاتحاد نموذجاً للدول الناجحة بصيغته وسياساته واستشرافه لمستقبل التنمية والتضامن والسلام.  

  العرب منذ أقدم عصورهم يعتبرون الوحدة بمختلف أشكالها هدفاً أسمى. وبعد ظهور الإسلام والدولة، ظهرت مقولة الوحدات الثلاث: الأمة (= الجماعة)، والدار والسلطة. وجاءت تجربة المدينة أو كتابها أو صحيفتها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً للاجتماع السياسي الذي يتم عبر تعاقُدٍ طوعي واختياري بين الجماعات المستقرة على أرضٍ واحدةٍ أو متقاربة، وتتساوى فيه الحقوق والواجبات بين المكونات المتعددة ديناً وثقافةً وإثنيةً ولساناً، يلتقون على مصالح مشتركة يرعونها معاً.

إنما عندما تحولت الدولة في التاريخ إلى إمبراطورية، ما عاد يمكن الحديث عن تعاقُدٍ متكافئ بين أطرافٍ متشاركة. لذلك، وبخاصةٍ في التاريخ الحديث للعالم وللعرب، وبعد ظهور فكرة الدولة القومية وممارساتها كثيراً ما صار التوحيد السياسي يتم بالقوة والغلبة. ولذلك فإنّ أكثر هذه الوحدات سرعان ما ينال منها التفكك أو التنازع.    

تكاد تجربة دولة الإمارات تنفرد في تاريخ المَشرق العربي في القرن العشرين، بأنها تجربة وحدوية عربية أساسها تعاقد طوعي واختياري بين سائر مكوناتها. وهذه هي الميزة الأولى، وما قام على السلم والتضامن لا ينقضُه شيء. أما الميزة الأُخرى فهي هذا التلاحُم الذي صنعته عقود الاتحاد بين شعب الدولة الإماراتية أفراداً وجماعات وسلطات. وأخيراً الأفق الشاسع الذي فتحه قادة الدولة منذ الشيخ المؤسِّس ببرنامج التنمية الشاملة الذي يقرّب الناس بعضهم إلى بعض، ويقوّي الثقة بينهم وبين قيادتهم الضابطة والمتنورة.    تشهد دولة الإمارات منذ شهور معرض «إكسبو 2020 دبي» الذي تنافست كبريات دول العالم وشركاته على حضوره.

وعندما كنت في أبوظبي قبل أسابيع وزرت مسجد الشيخ زايد، رأيتُ وبدون مبالغة آلاف الناس من المواطنين والمقيمين والزوار، وهم يتجولون في مرابعه ومعالمه، ويزورون ضريح المؤسِّس في موطنٍ احتشد فيه التاريخ والحاضر والمستقبل دفعةً واحدة.. فأدركتُ أنّ ما أُسِّس على التقوى والعمل الصالح سيبقى يفيض بالخير على شعبه ومحيطه والعالم. فدولة الواقع والحقيقة تتسع أيضاً للأمل والأمنية والخيال، ولذلك سمّاها البابا فرنسيس، وليس مجازاً، «الصحراء الخضراء».

   كان المؤرخون يضربون المثل بالضيق المتفجر للدولة القومية على النمط الأوروبي. لكنّ «دار زايد» صارت النموذج لـ«الدولة الوطنية» التي يشيع التلاحم والتراحم بين مواطنيها وقاطنيها، ثم هي تتسع وتمتد أرجاؤها لتعانق العالَمَ كلَّه بدون اعتسافٍ أو استقطابٍ أو سعيٍ لهيمنة أو تخلٍّ.   في العام الخمسين لقيام دولة الاتحاد الزاهر، صار التسامح وصارت الأخوَّة الإنسانية مبادئ وممارسات في السياستين الداخلية والخارجية للدولة. في العام 2019، وبعد أن حضرتُ مؤتمر الأخوَّة الإنسانية وتوقيع وثيقتها في أبوظبي بين البابا وشيخ الأزهر، لقيتُ الأستاذ «جوزف فان أس» الذي درستُ عنده في سبعينيات القرن الماضي (توفي في 21 نوفمبر 2021)، فقال لي: هؤلاء الناس يجددون الحضارة العربية الإسلامية، أو بالأحرى ينشئون حضارةً جديدة!

* أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.