استغرقت حكومة بوريس جونسون أقل من 24 ساعة للتحول عن خطتها المثيرة للخلاف التي استهدفت السيطرة على لجنة برلمانية لمكافحة الفساد. لكن هذه الفترة القصيرة من الزمن وضعت بريطانيا أمام اختبار جدي لذاتها فيما يتعلق بقيمها الديمقراطية. ومن داخل حزب المحافظين الحاكم، تحسّر وزراء سابقون، مثل تابياس إيلوود، على الضرر الشديد الذي لحق بـ«أم البرلمانات». وقال إيلوود «ضللنا طريقنا ونحتاج إلى العثور على بوصلتنا الأخلاقية».

وعلى امتداد الطيف السياسي، اصطفت شخصيات سياسية بارزة ووسائل إعلام كبيرة إلى جانب زعيم المعارضة كير ستارمر الذي اتهم رئيس الوزراء بالفساد.

والواقعة، في ظاهرها، تتعلق بسلوك حاولت من خلاله حكومة المحافظين إعادة كتابة القواعد لتنقذ أحد أعضائها في البرلمان من العقاب. واعتبرت لجنة برلمانية تضم أحزاباً مختلفة «أوين باترسون»، الرجل الذي يمثل محور الواقعة، مذنباً لحصوله على أموال من شركتين في مقابل حشد دعم إدارات الحكومة لصالحهما. وحتى حين اقترحت الحكومة حل اللجنة، سُمح لباترسون بالبقاء في مقعده والتصويت لتعطيل نظام مراقبة السلطات والتوازن بينها، أي النظام الذي عاقبه. لكن في العمق، تكشف هذه الواقعة انتهاكاً كبيراً للثقة في الحياة السياسية البريطانية، مما «يثير أسئلةً حول حكم القانون»، بحسب قول دانيالا نادج، الزميلة في «المعهد البريطاني للقانون الدولي والمقارن». وتخشى نادج من أن «تستطيع الحكومات ذات الغالبية الكبيرة إبطال العمليات والإجراءات لأنها ليست ملزمة بدستور مكتوب.. وهذا يمثل إشكالية».

ويوضح اندرو راسل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليفربول، أن «وظيفة عضو البرلمان البريطاني ليس لها وصف وظيفي. لقد صنعتها سلسلة من الناس من خلال عملهم، مستخدمين العرف في إرساء ما هو صائب وما هو غير ذلك». وقضايا الفساد ليست قليلة الشيوع في السياسة البريطانية؛ ففي تسعينيات القرن الماضي، هزت سلسلة من الحوادث حزب المحافظين وأبرزها حين كان صحفيون من «صنداي تايمز» يتصلون بمكتبي مشرعَين من حزب المحافظين ويقدمون المال لهما مقابل طرح أسئلة على البرلمان بالنيابة عنهم. وشهدت قضية نفقات أعضاء البرلمان في عام 2009 كشف معلومات يومياً تقريباً في العناوين الصحفية البريطانية حول أعضاء من البرلمان استخدموا المال العام في مصالحهم الشخصية مثل شراء منازل. ويتذكر باتريك دايموند، المستشار السياسي للحكومة في ذاك الوقت، أن الجمهور «لم يلم حزباً واحداً، بل اعتقد أن هذا وباء في كل الأماكن. وهذا عزز التشاؤم».

ويرى دايموند، وهو الآن أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن، أن الضجة الحالية «تطرح قضايا» ناتجة عن الانطباع بأن جونسون دأب على تجاهل القواعد. فأثناء فترة ولايته، اُتهم جونسون بمحاولة تخفيف حدة تقرير بشأن التحقيق في قيام وزيرة الداخلية، بريتي باتيل، بالتنمر على عاملين. كما أن المحكمة الدستورية قضت بأن جونسون أغلق البرلمان بشكل غير قانوني قبل أسابيع فحسب من موعد نهائي حاسم في مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت».

وأضاف دايموند: «هذه القضية لها صدى، لأنها تأتي بعد سنوات تعرّض فيها حكم القانون لتحديات من بريكسيت، مع وجود ما يعتقد أنه تقويض للقضاء والشعور بأن الحكومة كانت مستعدةً للعمل بسرعة وبحرّية كي تقر بريكسيت عبر البرلمان». والصحفيون الذين يغطون أخبار الحكومة منذ عام 2019 لاحظوا تحولاً في الطريقة التي يطبّق، أو لا يطبق، بها المشرعون البريطانيون القواعدَ.

ومن هؤلاء الصحفيين «سام برايت»، وهو صحفي تحقيقات ساهم في كشف محاباة الحكومة لشركات خارج البلاد مملوكة لمانحين محافظين في الحصول على تعاقدات الكمامات والملابس الطبية الواقية أثناء الجائحة. وذكر برايت أنه كان يتعين «على الصحفيين في الماضي التنقيب في الأركان المظلمة للكشف عن نماذج مخالفات. لم يعد الأمر هكذا مع هذه الحكومة».

وأضاف أن هناك نمطاً من السلوك ظهر في ظل حكومة جونسون شعبويةِ الميول يتمثل في إساءة التصرف «مراراً في وضح النهار»، من التعاقدات المشبوهة الخاصة بمكافحة فيروس كورونا إلى تشويه صورة طالبي اللجوء علناً.

ومضى يقول: «حكومة بوريس جونسون لا يفزعها الاتهام بالمخالفات، وهو شيء إذا فكر فيه المرء يجده مفزعاً جداً». واستقال باترسون من منصبه كعضو في البرلمان، لكن القضايا المالية واصلت ملاحقتها للمحافظين. وظهرت مزاعم منذئذ مفادها أن تقديم هدية بقيمة ثلاثة ملايين جنيه استرليني (4 ملايين دولار) لحزب المحافظين كافية ليشتري بها أحد المانحين مقعداً في مجلس اللوردات، الغرفة العليا من البرلمان التي لا يُنتخب أعضاؤها.

صحيح أن قضية باترسون ليست كبيرة لدرجة تدفع إلى تغيير أساسي، لكنها غيّرت حصص الشعبية السياسية الحالية. فقد تقدَّم حزب العمال بنقطة مئوية على حزب المحافظين في استطلاع رأي خاص بنوايا التصويت.

ويرى راسل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليفربول، أنه «رغم تأثر كل أعضاء البرلمان بهذه الواقعة، لكن يُنظر إليها باعتبارها مشكلة المحافظين. ووسائل الإعلام الصديقة عادةً، أصبحت تحمل بعضاً من أقسى الانتقادات». وأضاف راسل: «المحافظون رأوا صورة لأنفسهم وعرفوا كيف تبدو. ولأول مرة، شهدت حكومة جونسون ذات الأغلبية الكبيرة كيف يمكن أن ينحسر الدعم الشعبي».

*صحفي بريطاني ومراسل «كريستيان ساينس مونيتور» لشؤون بريطانيا وأيرلندا

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»