في عصر تتعدد فيه الأديان والمذاهب والتوجهات الفكرية، يحل فقه التعايش بين الشعوب أهمية قصوى لضمان الاستقرار والنمو الاجتماعي، ودوره يسهم بشكل كبير في ازدهار الحضارات. إنَّ التنوع والاختلاف بين الشعوب هو من سنن الله الجارية في خلقه وتبرز الحاجة الملحّة إلى فقهٍ يُعيد تنظيم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان على أسس العدل والكرامة والاحترام المتبادل.
وهذا هو جوهر فقه التعايش والهدف الأصيل منه، والذي يُمثّل إحدى أرقى تجليات الشريعة الإسلامية في تعاملها مع واقع التنوع البشري.فقه التعايش لا يعني التنازل عن العقائد التي يعتقدها الفرد أو المجتمع، ولا الانسلاخ من الهوية، بل هو أسلوب تعامل يضبط العلاقة مع الآخر دينياً وثقافياً وحضارياً وفق مقاصد الشريعة وأحكامها بما يحقق السلام المجتمعي ويمنع الصدام، ويُسهم في بناء حضارةٍ إنسانية مشتركة.
فالله سبحانه خلق الناس مختلفين، ولم يجعلهم على ملّة واحدة، واختلافهم في الألسن والألوان والمعتقدات سنةٌ كونية لا تزول. قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. (سورة هود، الآية 118) التعايش هو الاستجابة الحضارية لهذا الاختلاف. وهو لا يقتصر على التعايش بين الأديان، بل يشمل الأعراق والثقافات والمذاهب والاتجاهات الفكرية.
وقد أسّس الإسلام لهذا الفهم منذ بواكيره، حين قرّر أن «لا إكراه في الدين»، وشرّع التعامل الإنساني مع غير المسلمين، وحثّ على البر والإحسان إليهم، ما داموا لا يعتدون. إن التعايش ليس مجرّد حالة سلبية من التحمّل والصبر، بل هو سلوكٌ فاعل يُنتج بيئةً من التعاون والتكافل والتشارك في الخير العام.
والإسلام حين دعا أتباعه إلى التعايش، لم يربط ذلك بضعف أو مصلحة وقتية، بل جعله من المبادئ الأصيلة التي تنبع من صميم مقاصده في حفظ النفس والعقل والدين والكرامة الإنسانية. ومن نتائج الصراع القائم اليوم في بعض البلدان، غياب الوعي بفقه التعايش، وانحراف الخطاب الديني أو السياسي نحو الإقصاء والاستعلاء، مما يُنتج بيئات مشحونة بالكراهية والعداء. بينما في المقابل، يُسهم ترسيخ فقه التعايش في بناء مجتمعات مستقرة، تحترم التعدد، وتستثمره في التنمية والتطور
. ومن الدعائم الأساسية لهذا الفقه: أولاً: الحرية الدينية والفكرية، حرية المعتقد هي حجر الزاوية في فقه التعايش. فالله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان حرية الاختيار، وقال: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة، الآية 256)، وهذه الآية أصلٌ في احترام القناعات الدينية والفكرية، طالما لم تتحول إلى أداةٍ للعدوان أو الإفساد. وقد حرصت الشريعة على أن يبقى باب الهداية مفتوحاً بالقناعة لا بالإكراه، وبالبيان لا بالإذلال.
ثانياً: المساواة مع الجميع، وهذه قيمة أخلاقية دينية أساسية لا تتأثر بدين الإنسان أو لونه أو جنسيته. وقد أمر الله بالمساوة حتى مع من يُخالفك في الدين، فقال: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (سورة المائدة، الآية 8) والمساواة في فقه التعايش يعني أن يُعامل الإنسان بما يستحقه من كرامة وحقوق، لا بما يُمليه الانتماء أو الهوى.
ثالثاً: احترام كرامة الإنسان: وهي أصلٌ من أصول الشريعة، وهي ليست حكراً على المسلم. قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (سورة الإسراء، الآية 70)، والآية عامة في كل إنسان، لا تُفرّق بين مؤمن وكافر. وهذه الكرامة تفرض على المجتمع أن يحمي حياة الناس ومعتقداتهم وأموالهم، وأن يمنع أي اعتداء أو امتهان لهم باسم الدين أو العرق.
رابعاً: التسامح الإنساني: لا يعني التسامح تذويب الهويات أو السكوت عن الباطل، بل هو تحمّل اختلاف الآخر، وتقبّل وجوده، والتعامل معه بأدب وخلق، دون أن يتحوّل الخلاف إلى سبب في العدوان. التسامح يُنتج مجتمعات متماسكة، تحترم بعضها، وتستطيع التعاون على الخير، دون أن تُذيب خصوصياتها الثقافية أو العقدية.
هذه المبادئ ليست تنظيرات مثالية، بل هي واقع ملموس عاشته شعوب كثيرة في ظل فقه التعايش الإسلامي، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، بقيادة رشيدة أرست السلام في المنطقة، وأتاحت لأتباع الديانات المختلفة ممارسة شعائرهم والعيش بأمان وطمأنينة، اقتداءً بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة. وفي هذا السياق، يُشيد المراقبون كثيراً بسياسات دولة الإمارات، التي تُجسّد نموذجاً حيوياً للتعايش بين المسلمين وغيرهم، في ظل احترام تام للخصوصيات، وتعاون على أساس المواطنة، لا الذوبان.
أما على مستوى بناء الحضارة، فإن التعايش يُعتبر شرطاً أساسياً في نشوء المدن وتطور العلوم وتبادل المعارف. فالحضارات لا تنمو في بيئات العزلة والانغلاق، بل حين تتفاعل مع غيرها، وتتبادل الأفكار والتجارب.
والتاريخ يُثبت أن الحضارة الإسلامية بلغت أوجها حين احتضنت العلماء من مختلف الخلفيات، وأنتجت مدارس فكرية طوّرت العلوم الشرعية والدنيوية معاً. إن التعايش، بهذا المعنى، ليس فقط قيمة أخلاقية، بل هو ضرورة وجودية، وأداة لبناء السلم المجتمعي، ومحرّك للتقدم الحضاري. فحيث يغيب التعايش، تحضر الكراهية، وتتفكك المجتمعات، وتتعطل عجلة البناء.
إن فقه التعايش هو دعوة واقعية إلى تأسيس مجتمعات مستقرة، قائمة على الاحترام، والتعدد، والعدل. وهو فقه المستقبل، لأن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على الإقصاء، بل على الاعتراف، لا على الهيمنة، بل على الشراكة، لا على العنف، بل على السلام. ومن العبارات الخالدة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه: «إن نهج الإسلام هو التعامل مع كل شخص كإنسان بغض النظر عن عقيدته أو عرقه».
* مستشار برلماني