جعلت دولةُ الإمارات العربية المتحدة من حماية الإسلام من التسييس ركناً أصيلاً في مشروعها الوطني. فحين سعت الحركات المتطرفة إلى ادعاء المرجعية الدينية وتوظيفها لخدمة أجنداتها، انتهجت الإمارات مساراً مختلفاً يقوم على التعليم والبحث العلمي وبناء المؤسسات. هذا التوجّه لا يُقصي الإسلام عن المجال العام، بل يصونه من الاستغلال السياسي، وفي مقدمته ما تمارسه جماعة «الإخوان». ومن خلال الاستثمار في مناهج أكاديمية رصينة، وإنشاء جامعات متخصّصة في العلوم الإنسانية، ودعم مراكز بحثية تُعنى بمواجهة فكر الإسلام السياسي، شيّدت الإمارات درعاً معرفياً وتربوياً يحمي الدين والمجتمع من التطرف.
اتخذت دولةُ الإمارات موقفاً واضحاً مفاده أن الإسلام ليس مشروعاً سياسياً. وفي صميم هذا التوجّه يبرز دور مركز «تريندز للبحوث والاستشارات»، الذي دأب على تنظيم منتديات سنوية حول الإسلام السياسي، تجمع بين الباحثين وصنّاع القرار لتفكيك الأسس الفكرية للحركات المتطرفة، وفي مقدمتها جماعة «الإخوان». شهد السادس عشر من هذا الشهر انعقاد المنتدى السنوي الخامس حول الإسلام السياسي، حيث ناقش المركز صلة الإخوان بالعنف، مبرزاً كيف تقود خطابات الجماعة وبُناها التنظيمية إلى مسار يتدرج من التعبئة السياسية وصولاً إلى الإرهاب. وأكدت أعمال المنتدى أن التصدي للتطرف لا يُختزل في الإجراءات الأمنية وحدها، بل يتطلب تعليماً نوعياً، وانخراطاً ثقافياً، ومواجهة فكرية رصينة ومنهجية.
تتجسّد جهود دولة الإمارات في ابتكاراتٍ مؤسسية رائدة، من أبرزها «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية» التي أُنشئت لتأهيل جيل جديد من العلماء الراسخين في المعرفة الإسلامية، والمتسلّحين بالعقائد والأخلاق والعلوم الإنسانية. وعلى خلاف الكليات التقليدية، تقدّم الجامعة برامج توسّع التعليم الديني ليشمل التفكير النقدي وقيم التسامح والتعايش، بحيث لا تقتصر غايتها على منح مؤهلات أكاديمية، بل تمتد إلى غرس قيم الحوار والمسؤولية الاجتماعية في صلب التكوين الديني والإنساني.
وتعكس شراكات الجامعة مع مؤسسات وطنية هذه الرؤية العملية، من خلال برامج المنح الدراسية، التي تهيّئ شخصيات دينية محلية، تستند إلى بحوث أصيلة وتنسجم مع النهج الوسطي للدين والدولة، كما قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: 143]. ويتوجّه هؤلاء الخريجون إلى خدمة المساجد والمدارس والمؤسسات العامة، بما يساهم في تعزيز الخطاب الديني المعتدل وترسيخ قيم الاعتدال والتعايش. وهكذا تُخرّج الجامعة علماء ذوي فهم متوازن للإسلام، قادرين على صون مجتمعاتهم من الانجرار وراء توجهات متشددة أو أجندات أيديولوجية عابرة للحدود.
تنبع فعالية هذا النموذج من معالجته للجذور الفكرية للتطرف، إذ إن الجماعات المتشددة غالباً ما تزدهر في بيئات يضعف فيها النقاش الديني العميق وتنحسر فيها ملكات التفكير النقدي، فتُستغل المظالم خارج سياقاتها الصحيحة. ومن خلال ربط الدراسات الإسلامية بالفلسفة والأخلاق والعلوم الاجتماعية، تمنح الإمارات طلابها أدوات التحليل والمساءلة والقدرة على مقاومة السرديات الأيديولوجية المبسّطة. وليس في ذلك إقصاءٌ للدين، بل حمايةٌ له وصونٌ لدوره الأصيل كمصدر للهداية الروحية والقيم الإنسانية.
كما تمتد هذه الجهود إلى آفاق أوسع، حيث باتت الجامعات الإماراتية تقدّم برامج تربط الفكر الإسلامي بالتقاليد الفكرية العالمية، فيما تعمل مراكز بحثية مثل «تريندز» على تحليل أنماط الفكر المتطرف، بما في ذلك دور الإعلام الرقمي في التجنيد والتعبئة. وتتسع هذه المبادرات عبر شراكات دولية مع مؤسسات وخبراء عالميين، بما يعكس التزام الإمارات بالريادة في تعزيز المواجهة الفكرية للتطرف.
وقد اختارت الإمارات أن تعالج تحديات الإسلام السياسي بالعلم والبحث وبناء المؤسسات، حمايةً للإسلام من الاستغلال الأيديولوجي، وترسيخاً لدوره كمصدر للوحدة والأخلاق والهوية، وهكذا تقدم الدولة نموذجاً تعليمياً وفكرياً يؤهّل الأجيال المقبلة لمقاومة التطرف، ويجسّد مقاربة شاملة يمكن الاستفادة منها في تجارب دول أخرى.
وفي وقت لا تزال فيه جماعات تسعى إلى النفوذ بأجندات ضيقة، يبرهن النموذج الإماراتي أن المواجهة الفاعلة لا تقتصر على الأمن والقانون، بل تقوم على ترسيخ المعرفة والقيم والفهم الديني الأصيل. فالإسلام، وفق هذه الرؤية، ليس حكراً على جماعة أو حزب، بل هو دين للإنسانية جمعاء، يمارس بروحه الحقيقية القائمة على الاعتدال والسلام والتعايش، بما يجعل صونه مسؤولية مشتركة وإسهاماً في جهد عالمي يضمن بقاء الدين قوةً للسلام لا أداةً للانقسام.
* مستشار برلماني.