يشكّل الاستقطاب المؤدلج والتطرّف الديني العقائدي تهديداً لبنية المجتمعات حول العالم، وقد أفضيا إلى مشكلات كثيرة زعزعت السِّلم الأهلي. وتفاقمت هذه الظاهرة في الدول الأوروبية مع تضخّم موجات الهجرة إليها، ما أدّى إلى تنامي مشاعر الكراهية تجاه الإسلام بسبب سلوكيات متفرقة هنا وهناك. ومن ثمّ بدأ النقاش حول الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الدول الأوروبية للحدّ من هذه الظواهر والحفاظ على السِّلم والاستقرار.
وفي ظلّ هذه الأزمة، عُقد الأسبوع الماضي في البرلمان الأوروبي مؤتمر بعنوان: «مواجهة الاستقطاب والتطرّف بين شباب أوروبا»، وجاء انعقاده استجابةً لحاجة مُلحّة إلى وضع استراتيجيات تعاونية لمكافحة التطرّف، وكان لدولة الإمارات العربية المتحدة دورٌ بارز بصفتها من أوائل المحذِّرين من خطورة هذه المشكلة.
انعقد المؤتمر في قلب أوروبا واستضاف النائبة الأوروبية سابرينا ريب، وجمع بين أعضاء من البرلمان الأوروبي وخبراء في الشؤون السياسية والأمنية والاجتماعية لتحليل أسباب تطرّف الشباب، بدءاً من خطاب الكراهية المنتشر الذي يستقطب الحماسةَ الاندفاعية لدى بعض الشباب، وصولاً إلى المحتوى المتحيّز في المناهج الدراسية. وقد أبدت جهات فرنسية وبلجيكية حذراً شديداً وتوجّساً من تحرّكات جماعة «الإخوان»، إذ تنشط عبر منظمات وتجمّعات طلابية غير رسمية.
وشاركت الإمارات بفاعلية لتعرض رؤيتها وخطتها التي أثبتت نجاعتها، وذلك عبر مدير المكاتب العالمية في مركز «تريندز» للبحوث والاستشارات، الاستاذ عبد العزيز المرزوقي، الذي تناول القضية بعمق، فكشف مصادر تمويل الشبكات المتطرّفة، ودعا إلى تعليمٍ ينمّي التفكير النقدي والمناعة الأخلاقية، وهما من السمات التي أسهمت في نجاح التجربة الإماراتية في مكافحة التطرّف.
وقدّمت المحللة الإماراتية سارة الحوسني رؤى قيّمة، إذ أوضحت كيف تُضخّم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي خطاب الكراهية بدافع الربح، ودعت إلى تبنّي رسائل قائمة على القيم، وإطلاق مبادرات يقودها الشباب لتعزيز الوعي الرقمي.
وما يجعل دور الإمارات مهمّاً إلى هذا الحد، بخلاف دول كثيرة تكافح التطرّف، أنّها طبّقت برامج شاملة لإعادة التأهيل الفكري تمزج بين الحوكمة الرشيدة للخطاب العام والمشاركة المجتمعية. وتركّز هذه النماذج على الحوار بين الأديان والقراءة المعتدلة للنصوص الدينية، بالتوازي مع ترسيخ الواجبات المدنية المستندة إلى المبادئ الوطنية.
لقد لعب التهميش الاجتماعي والاقتصادي، إلى جانب أزمات الهوية والتأثيرات الخارجية، دور الحاضن الأساس لنموّ التطرّف. وفي هذا السياق يقدّم النهج الإماراتي مساراً عملياً لمعالجة جذور الظاهرة. ومن خلال عرض دراسات حالة ناجحة، تُبيّن الإمارات كيف يمكن للشفافية في التمويل، وتعزيز تدريب المعلّمين، وعقد موائد مستديرة دولية، أن تفكّك السرديات المتطرّفة قبل أن تتجذّر.
وفي المقابل، ارتفعت أصوات منتمية إلى جماعة «الإخوان» للتحريض ضد دولة الإمارات ودورها القيادي الفاعل عالمياً وفي قضايا المجتمعات المسلمة في أوروبا، سعياً لتقليص هذا الدور أو لتأليب الرأي العام عليه. غير أنّ الواقع يخالف ذلك، فقد خلص المؤتمر إلى بنود صارمة ضد التطرّف، وإلى دعوة صريحة لإجراء تحقيقات أوروبية شاملة في الشبكات المتطرّفة، مع دعم منظمات إسلامية مستقلة، بما ينسجم تمامًا مع موقف الإمارات الرافض للإسلام السياسي وأجندة «الإخوان» الهدّامة.
ولا يتعلّق الأمر بفرض أجندات خارجية على الاتحاد الأوروبي، بل ببناء الاستقرار عبر تبادل المعرفة والخبرة، فالتعاون الدولي المتواصل ضرورة لأمن أوروبا، وهو ما انعكس في التوصيات التي دعت إلى مناهج لإعادة التأهيل الفكري، وإلى زيارات مدرسية تسهم في كسر الصور النمطية.
تُدرك القيادات في أوروبا ضرورة العمل على هذا البرنامج، فمع تصاعد أصوات التطرّف من غرف الصدى الرقمية إلى الفصول الدراسية والشوارع، يقدّم الموقف الاستباقي للإمارات نموذجاً للصمود قائماً على الوقاية لا على ردّ الفعل. وعلى صانعي القرار في بروكسل أن يستجيبوا لهذه الدعوة من خلال دمج استراتيجيات مستوحاة من التجربة الإماراتية في إصلاحات التعليم وتنظيم المنصّات الرقمية، وبذلك لا يقتصر الأمر على جسر الانقسامات، بل يمتدّ إلى بناء قارة أكثر تماسكاً وتسامحاً.
إنّ مشاركة الإمارات في هذا المؤتمر لم تكن مجرّد خطوة رمزية، بل دليل على نفوذها المتنامي بوصفها قوّة عالمية في بناء السلام. وبينما يراقب العالم، قد يكون احتضان مثل هذه الشراكات المفتاح لقلب موازين المعركة ضدّ التطرّف لأجيال قادمة.
*مستشار برلماني