عندما فرض الرئيس دونالد ترامب رسوماً جمركية ضخمة على الواردات في أبريل الماضي، اتفق التيار السائد في الأوساط الاقتصادية وكبار المتنبئين في وول ستريت على نقطة واحدة، وهي أن تلك الرسوم ستؤدي إلى حالة من الركود التضخمي في أحسن الأحوال، أو إلى ركود عميق في أسوئها، بينما سينهار سوق الأوراق المالية.
وبدا الأمر كما لو أن الحياة ستتحول إلى أحداث مسلسل لما بعد نهاية العالم حيث يتقاتل الناجون للحصول على البضائع المتبقية في المراكز التجارية.
وقدرت شركة «غولدمان ساكس» للخدمات المالية والاستثمارية العالمية احتمال حدوث ركود كامل بنسبة 45%، بينما توقع تورستن سلوك من شركة «أبولو» للاستثمار، وهو أحد أبرز الاقتصاديين في وول ستريت، احتماليةَ حدوث ما أسماه «الركود الناتج عن إعادة ضبط التجارة الطوعية» بنسبة 90%. وبينما جادل بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل بالقول، إن أكبر صدمة تجارية في التاريخ تعني «أن الركود يبدو محتملاً».
ورغم مرور ستة أشهر، لم تتحقق تلك التوقعات، حيث أخطأ كبار المفكرين في توقعاتهم، ولذلك فإذا أرادوا الآن أن يحافظوا على مصداقيتهم، فعليهم مواجهة أخطائهم ومعرفة أسبابها. فالاقتصاد الأميركي ينمو بما يقارب 4%، ومعدل التضخم لا يزال أقل من 3%، ولا يزال التوظيف قوياً، في حين تولِّد الرسومُ الجمركية عائداتٍ ضريبيةً إضافيةً كبيرةً، حتى أن إدارة ترامب طرحت فكرةَ منح دافعي الضرائب العاديين مكافأةً تصل إلى ألفي دولار. وبالطبع لم يدخل فرض الرسوم الجمركية حيز التنفيذ بالكامل سوى منذ شهرين. ربما نشهد ركوداً اقتصادياً شاملاً، وهناك بعض المؤشرات على ارتفاع الأسعار، لاسيما المواد الغذائية وقطع غيار السيارات، لكن حدوث ركود كامل هو أمر غير محتمل.
وكما فشل كل خبراء استطلاعات الرأي السياسية الأساسيين تقريباً في التنبؤ بالفوز الساحق لترامب، في نوفمبر الماضي، فشل الاقتصاديون في فهم كيفية تسيير التعريفات الجمركية، وينبغي عليهم الآن أن يتساءلوا صادقين: أين يقع الخطأ؟
في البداية، يعاني التيار السائد في علم الاقتصاد من ما يسمى «متلازمة اضطراب ترامب»، فما يمكن أن نصفه بلباقة أنه أسلوب غريب للرئيس في الحكم قد أرهق عقولَ خصومه السياسيين مما أفقدهم القدرةَ على التفكير السليم. ويمكن مقارنة ذلك بخروج بريطانيا المؤلم من الاتحاد الأوروبي، وهو قرار أغضب المؤسسة الحاكمة مما دفعها إلى إطلاق كل أنواع التنبؤات المخيفة بانهيار اقتصادي وهو ما لم يتحقق.وتكمن الحقيقة الواضحة في أن العلوم الاجتماعية التي تتظاهر بالنظر إلى العالم بموضوعية سمحت لنفسها أن تصبح مسيسةً إلى الحد الذي جعلها غير قادرة على فهم العالم من حولها.
ومن المفارقات أيضاً أن معظم خبراء الاقتصاد لا يفهمون الأسواق حقاً، فالشيء الوحيد الذي يجيده الاقتصاد الليبرالي هو التكيف مع التغيير، وقد تعاملت معظم الشركات مع التعريفات الجمركية ببساطة ومضت قدماً في طريقها. ويخبرنا التاريخ أن الأسواق الحرة قادرة على مواجهة الحروب والأوبئة والثورات. وقد كان من العبث القول، إن فرض 20% كرسوم على أقنعة الهالووين الفيتنامية الصنع سيكون نهاية العالم.
وأخيراً، يبدو أن الولايات المتحدة كانت تعاني بالفعل من صفقة غير عادلة في مجال التجارة، إذ أنها تفرض حالياً تعريفة جمركية متوسطة تبلغ 18.6%، وهي الأعلى منذ عام 1933، وفقاً لمختبر الميزانية بجامعة ييل. ومع ذلك، فالأسعار ترتفع بنسبة 3% فقط، وتبين أن المصدِّرين الأجانب كانوا يجنون أرباحاً كافية من المستهلكين الأميركيين حتى أنهم تمكنوا من استيعاب أغلب الرسوم الجمركية الجديدة، إما من خلال تقليل الأرباح أو من خلال توفير الكفاءة. لكنهم لا يحصلون على أرباح من المستهلكين الأميركيين بالطريقة المتوقعة، ولذا فإن الثلاثين مليار دولار الإضافية الشهرية التي تولدها عائدات الرسوم الجمركية ليست مجانية تماماً.
 ويمكننا مناقشة أسباب فشل تلك التوقعات، لكن الأمر الأكثر أهميةً هو أن المفكرين الاقتصاديين كانوا بعيدين عن الهدف. فقد انسحب المستثمرون من الأسهم الأميركية واتجهوا للأسهم الأوروبية بعد أن قيل لهم إن الشركات الأميركية سوف تنهار، ويمكنك أن تنظر إلى السوق الفرنسية في الفترة الأخيرة، لترى كيف تمضي الأوضاع فيها، فقد أرجأت الشركات استثماراتها أو سرّحت موظفيها استعداداً للركود الذي لم يحدث.

وبدلاً من ذلك تعمل الرسوم الجمركية بشكل جيد وتُدِرُّ ما يصل إلى 400 مليار دولار سنوياً من الضرائب الإضافية دون تأثير سلبي يذكر، وبمرور الوقت قد تسهل على المصنعين الأميركيين المنافسة وربما خلق فرص للعمالة الماهرة.ورغم أن توقعات الاقتصاديين القاتمة كانت محاطة دوماً بالتحذيرات الأكاديمية المعتادة، فإن الانطباع العام كان واضحاً.

فهؤلاء الخبراء الذين يزعمون فهمَ آلية عمل الاقتصاد رأوا في التعريفات الجمركية كارثة. وقد كانوا مخطئين في ذلك، وعليهم الإقرار بأخطائهم. كما يتعين على خبراء استطلاعات الرأي السياسيين الذين يشعرون بالحرج أيضاً، إعادة النظر في أعمالهم. ومع إعادة إدارة ترامب صياغة قواعد التجارة العالمية بشكل جذري، فإننا بحاجة إلى خبراء اقتصاديين لمساعدتنا على فهم ذلك واستيعابه أكثر من أي وقت مضى. لكنهم يحتاجون أيضاً إلى أن يكونوا محايدين وموضوعيين وقادرين على التعلم من أخطائهم، لأنهم إن لم يفعلوا، فسيفقد الناس اهتمامهم تدريجياً.

*كاتب متخصص في الشؤون المالية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»