تمثّل دولة الإمارات العربية المتحدة، وروما (بوصفها قلب إيطاليا)، والفاتيكان، ثلاثية متميزة في العلاقات الدولية تجمع بين الدبلوماسية الحديثة، والطموح الاقتصادي، والتناغم بين الأديان. فقد تطورت علاقات الإمارات مع إيطاليا إلى شراكة استراتيجية راسخة، في حين شكّلت علاقاتها مع الفاتيكان نموذجاً رائداً في الحوار بين الأديان.
وهذه العلاقة ليست مهمة للأطراف المعنية فحسب، بل للعالم أجمع، إذ تجسّد كيف يمكن لدولة مسلمة أن تنسج علاقات عميقة مع قوى أوروبية عريقة. ومن خلال المصالح المشتركة في مجالات التجارة والأمن والتبادل الثقافي، ازدادت هذه الروابط متانة في ظل التحولات الجيوسياسية، مع حلول عام 2025 بوصفه محطة مفصلية في مسار التعاون المتنامي.تعود العلاقات الدبلوماسية بين الإمارات وإيطاليا إلى عام 1972، أي بعد فترة وجيزة من استقلال الدولة. وقد ركّزت التبادلات الأولى على التجارة، خصوصاً في اللؤلؤ والبضائع، غير أن العلاقات الرسمية تطورت مع إدراك الطرفين لأهمية كل منهما الاستراتيجية. فإيطاليا، العضو المؤسس في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، نظرت إلى الإمارات بوصفها بوابة إلى الشرق الأوسط، بينما رأت الإمارات في إيطاليا جسراً إلى الأسواق الأوروبية والتكنولوجيا المتقدمة. وقد ارتقت العلاقات إلى شراكة استراتيجية شاملة مع الزيارة الرسمية الأولى لرئيس دولة الإمارات إلى إيطاليا في فبراير 2025، والتي توّجت عقوداً من الثقة المتبادلة.
وخلال الزيارة التي بدأت يوم الاثنين 24 فبراير، عقد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، مباحثات مع فخامة الرئيس سيرجيو ماتاريلا، ودولة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، تناولت التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد والاستثمار والطاقة المتجددة والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتبادل الثقافي.
وجرت هذه المناقشات في إطار الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
أما على صعيد العلاقات مع الفاتيكان، فقد كانت الانطلاقة ذات أثر عميق. إذ أقيمت العلاقات الرسمية عام 2007، إلا أن الزيارة التاريخية لقداسة البابا فرنسيس إلى أبوظبي في فبراير 2019 – وهي الأولى من نوعها إلى شبه الجزيرة العربية – شكّلت نقطة تحول عالمية. وقد توّجت تلك الزيارة بتوقيع «وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»، التي جسّدت التزاماً بقيم التسامح، وأسهمت في تعزيز مبادرات الحوار بين الأديان على مستوى العالم.
اقتصادياً، تُعد الشراكة الإماراتية الإيطالية نموذجاً للتكامل والمنافع المتبادلة. فقد بلغ حجم التجارة غير النفطية بين البلدين نحو 7.9 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، بزيادة قدرها 14.6% على العام السابق، مع توقعات بتجاوز 9.8 مليار دولار بنهاية العام. وتشمل القطاعات الرئيسية التكنولوجيا الصناعية والطاقة والدفاع. وتُصدّر الإمارات إلى إيطاليا منتجات كالألمنيوم المكرر والذهب، فيما تستورد الآلات والسلع الفاخرة ومعدات التصنيع المتقدمة.
وفي فبراير 2025، تم توقيع اتفاق استثماري تاريخي بقيمة 40 مليار دولار، خُصصت لتطوير قطاعات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والطاقة المتجددة في إيطاليا، مما يجعلها مركزاً أوروبياً لرؤوس الأموال الإماراتية. وشمل الاتفاق أكثر من 40 مذكرة تفاهم لتعزيز المشاريع المشتركة في مجالات الدفاع والبنية التحتية. كما توسّعت شركات إيطالية كبرى مثل «إيني» و«ليوناردو» في الإمارات عبر التعاون في مشاريع النفط والفضاء، في حين استثمرت صناديق سيادية إماراتية مثل «مبادلة» في أصول إيطالية تشمل دور أزياء وشركات تكنولوجيا ناشئة. وامتدت هذه الشراكة الاقتصادية إلى روما كمركز ثقافي وتجاري تدعمه الاستثمارات الإماراتية في مجالات الابتكار الإيطالي.
أما البُعد الروحي الذي يمثّله الفاتيكان فيضيف طبقة فريدة إلى هذه العلاقات الثلاثية، إذ يُعزّز جهود السلام والتفاهم العالمي. فالزيارة البابوية عام 2019 لم تُعزّز صورة الإمارات كدولة متسامحة فحسب، بل أسفرت عن مشاريع ملموسة مثل «بيت العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي، الذي افتُتح عام 2023 ويضم مسجداً وكنيسة وكنيساً في مجمع واحد، تجسيداً لروح وثيقة الأخوّة الإنسانية.
وقد وصف البابا فرنسيس الإمارات بأنها «أرض التعايش»، مثمناً دورها في التعليم الديني والحوار الإنساني. وشهد عام 2021 توقيع اتفاق بين دائرة التعليم الكاثوليكي في الفاتيكان ووزارة التربية والتعليم الإماراتية لتعزيز قيم التسامح في المناهج الدراسية. وفي عام 2025، التقى مسؤولون دينيون إماراتيون بالبابا فرنسيس في الفاتيكان لمتابعة جهود الأخوّة الإنسانية، في ظل تحديات عالمية مثل تغير المناخ والهجرة. وقد تجاوزت هذه اللقاءات البُعد الدبلوماسي لتؤثر في علاقات الفاتيكان بالشرق الأوسط عموماً.
وعلى الصعيد الثقافي، أسهمت المبادرات المشتركة في تعزيز هذا التقارب الثلاثي. فـ «المعهد الثقافي الإيطالي» في أبوظبي ينشر اللغة والثقافة الإيطالية، فيما تُعزّز الفعاليات المشتركة – من المعارض الفنية إلى المهرجانات السينمائية – الإرث المتوسطي المشترك بين الشعبين. أما مع الفاتيكان، فتتجلى الروابط الثقافية في الندوات والحوارات الدينية وتبادل التحف الفنية، مستلهمة من إرث روما التاريخي. كما تشارك الإمارات بفعالية في مؤتمرات الفاتيكان حول حقوق الإنسان والسلام، إلى جانب تعاون متزايد في مجالي التعليم والسياحة، مع رحلات جوية مباشرة بين أبوظبي وروما تسهّل التواصل بين الشعوب.
ومن التطورات البارزة في هذا السياق جولة مركز تريندز للبحوث والاستشارات البحثية في أوروبا، التي شملت أنشطة مهمة في روما بتاريخ 14 أكتوبر 2025. فقد وقّع المركز مذكرة تفاهم مع «مركز الدراسات الدولية» (CeSI) لتعزيز التعاون في مجالات الأمن المتوسطي والحوار بين الأديان والاستقرار الإقليمي. كما بحث مع «المعهد الإيطالي للشؤون الدولية» (IAI) مشاريع مشتركة في الربط الإقليمي وبرامج الشرق الأوسط وأفريقيا. وشهدت الجولة افتتاح المكتب الافتراضي لمركز تريندز في روما كمحطة للتبادل الفكري، إلى جانب الإعداد لندوة بعنوان «السلام والتسامح في عالم مضطرب» في «المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية»، تجسيداً لالتزام الإمارات ببناء جسور معرفية مع المؤسسات الإيطالية والفاتيكانية.
أما على الصعيد الأمني والجيوسياسي، فتتعاون الإمارات وإيطاليا في دعم الاستقرار المتوسطي ومكافحة الإرهاب وتعزيز أمن الطاقة. وكشريكين في إطار الناتو، ينخرطان في تدريبات عسكرية مشتركة، مع توريد أنظمة دفاع إيطالية إلى الإمارات. فيما يدعم الفاتيكان – عبر سُلطته الأخلاقية – جهود السلام التي تقودها الإمارات في اليمن وليبيا. وشمل الاتفاق الاستثماري لعام 2025 بنوداً دفاعية، تعزّز مكانة البلدين كشريكين في الاستقرار ضمن عالم متعدد الأقطاب. كما عكست أكثر من 30 زيارة لمسؤولين إيطاليين إلى الإمارات منذ أواخر عام 2023 قوة الزخم الدبلوماسي بين الجانبين.
وبالنظر إلى المستقبل، يُتوقع أن تشهد العلاقات مزيداً من العمق والتوسع. فمع رؤية الإمارات 2031 وخطة إيطاليا للتعافي بعد الجائحة، تتسع الفرص في مجالات الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي. كما يمكن أن تمتد الشراكة مع الفاتيكان إلى مبادرات بيئية تتماشى مع رسالة البابا فرنسيس «كُن مسبّحاً»، في وقت تتطلب فيه أزمات المنطقة مزيداً من الحوار والتفاهم. إلا أن الأسس المتينة لهذه العلاقات – القائمة على الثقة والاستثمار والقيم المشتركة – تجعلها قادرة على الصمود أمام التحديات.
إن روابط الإمارات مع روما والفاتيكان تمثل ركيزة أساسية للازدهار الاقتصادي والإثراء الثقافي والسلام العالمي. فمن الزيارات التاريخية إلى الاتفاقات المليارية، تقدم هذه الشراكة نموذجاً رائداً في بناء الجسور بين الشرق والغرب، وتجسّد رؤية الإمارات لعالم يتشارك القيم والاحترام المتبادل في زمن التحديات المتسارعة.
*مستشار برلماني