في كل مجتمع هناك ذاكرة تحفظ صوته، صوره، ملامحه، وهويته. ليست الذاكرة مجرد تاريخ يروى بل إطار ثقافي يستمر عبر العادات والحكايات والأغاني والأمثال والروابط العائلية التي تجعل من الماضي جذراً للمستقبل. لكننا اليوم نعيش لحظة تحول جيل جديد يكبر بلا ذاكرة حقيقية، جيل يلتقط صورته كل يوم ويحفظها على سيرفرات شبكة الإنترنت لكنه لا يتذكر عن الأمس شيئاً.
في الماضي كان البيت هو المدرسة الأولى للذاكرة تحكي الجدة قصص البحر والبادية وحين يأتي المساء تطل الحكايات عن الأجداد من نافذة ذاكرة الآباء عند تلك اللحظات كان يستقر في اللاوعي عند الطفل معنى الانتماء وكيف أن الفرد ليس معزولاً في مجتمعه منفصلاً عن تاريخه بل حلقة في سلسلة من الحكايات.
أما اليوم فقد تراجعت الذاكرة الشفاهية أمام هيمنة الذاكرة الرقمية. تلتقط كاميرات الهواتف كل شيء ونحفظه على ذاكرته ثم ننساه هناك. لم نعد نحفظ القصص في القلب بل أصبحنا نحفظها في السحابة الإلكترونية، التي لا تتذكر إلا إذا ضغطنا زر الهاتف.
الزمن بالنسبة للجيل الجديد لم يعد متصلاً كما كان، بل أصبح متقطعاً كالفيديوهات القصيرة التي يمررها على الشاشة بسرعة لم يعد هناك ماض يراجع أو غد ينتظر، بل صارت اللحظة الحالية هي المسيطرة ويستمر في استهلاكها ولا يبقى لها أثر عميق، بل آثار سطحية وتبدأ الذاكرة في التلاشي، حين يفقد الإنسان ذاكرته يفقد بالتدريج قدرته على تشكيل هويته. فالمجتمع بلا ذاكرة يشبه إنساناً أصيب بفقدان الذاكرة يعرف كيف يعيش لكنه لا يعرف لماذا يعيش..أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تعمل كذاكرة نيابة عنا تخبرنا ماذا كنا نحب قبل عام وتذكرنا بصور أعياد الميلاد أكثر مما تذكرنا بموتانا، تختار لنا ما نتذكره وما ننساه.
صارت هذه السيطرة الرقمية على الذاكرة الإنسانية ليست مجرد تطور تكنولوجي، بل هي تحول في وعي الإنسان بذاته. فحين تفقد المجتمعات قدرتها على حفظ ذاكرتها الإنسانية يصبح وعيها هشاً يسهل توجيهه والتلاعب به.
الذاكرة ليست شأناً فردياً فقط، بل هي أيضاً ركيزة من ركائز الهوية الوطنية، وحين يتربى جيل بلا ذاكرة وطنية فإنه يستهلك رموزه من دون أن يفهم معناها،، يرى العلم مرفوعاً لكنه لا يعرف كم من الجهد بذله الأجداد من أجل أن يرتفع ويسمع النشيد، لكنه لا يشعر بالمعنى الذي خلق من أجله. 
الأمر يتطلب وعياً وجهداً مشتركاً بين الأسرة والمدرسة والإعلام. فالمدرسة يجب ألا تكتفي بتدريس التاريخ كتواريخ وأسماء، بل أن تربط الماضي بالحاضر من خلال أنشطة ووسائل تفاعلية تجعل الطالب يرى نفسه امتداداً لذلك التاريخ .. وهذا ما انتبهت له قيادتنا الرشيدة وبدأ العمل على هذا وجعلت من التاريخ جزءاً فاعلاً في المنظومة التعليمية.
أما الأسرة فعليها أن تعيد الحكاية إلى طاولة العشاء، أن تزرع في الطفل فكرة أن ما يرويه الكبار ليس ماضياً، مملاً بل هو جزء من هويته. كما أن المؤسسات الإعلامية والثقافية تتحمل بدورها مسؤولية في استعادة الذاكرة الجمعية من خلال البرامج الوثائقية والمحتوى الثقافي الذي يحول التاريخ إلى حياة نابضة، لا إلى محفوظات جامدة من خلال الأفلام والمسلسلات والفنون المختلفة.
حين يتذكر الإنسان طفولته، لا يتذكر فقط المكان بل يتذكر الإحساس بالأمان والعلاقات التي منحته الفهم والوعي بالذات وبالحياة. لذلك فإن بناء الذاكرة هو في جوهره بناء للمعنى والوعي وهو ما يحتاجه الجيل الجديد ليجد لنفسه مكاناً بين الماضي والمستقبل.
علينا أن نعلم أبناءنا أن الصورة لا تغني عن القصة، وأن الضغط على زر حفظ لا يعني أننا تذكرنا فعلاً، الذاكرة الحقيقية تكتب في القلب والعقل لا في ذاكرة الهاتف. فمن لا يحمل ذاكرة لا يستطيع أن يصنع مستقبلاً. والأمم التي تحفظ ذاكرتها تحفظ وجودها.

*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.