في قلب أفريقيا، حيث يلتقي النيل الأبيض بالأزرق ليروي أرضاً خصبة بالتاريخ والألم، يعيش السودان اليوم جحيماً لا ينتهي. منذ أبريل 2023، تحولت البلاد إلى ساحة صراع دموي أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد ملايين، في أزمة إنسانية تُعد من الأسوأ عالمياً.
لكن خلف هذا النزاع تلوح ظلال جماعة «الإخوان»، التي لم تكن مجرد مشاهد، بل كانت المحرّك الأساس للانهيار.وصلت أفكار «الإخوان» إلى السودان في الأربعينيات عبر الروابط الثقافية والعائلية مع مصر، حيث أسّس حسن البنا الجماعة عام 1928. كانت البداية بسيطة، طلاب سودانيون في القاهرة يعودون محمّلين بأدبيات «الإخوان»، ومعلمون مصريون ينشرون دعوتهم في المدارس السودانية. بحلول الخمسينيات أصبحت الجماعة منظمة رسمية تحت قيادة أمين حسن عمر الذي أسس أول «أسرة» للإخوان في الخرطوم، وكانت جزءاً من «الحركة الإسلامية»، التي قادها حسن الترابي، الذي حوّلها إلى قوة سياسية مدعومة بالعسكر.
الانقلاب العسكري في يونيو 1989 كان اللحظة الحاسمة حين تحالف «الإخوان» مع ضباط الجيش بقيادة عمر البشير للسيطرة على الحكم. لم يكن انقلاباً عادياً، بل مشروعاً أيديولوجياً لفرض ما سموه «الدولة الإسلامية». فرضوا شريعة مزيفة وأنشأوا جهاز أمن داخلياً قمع المعارضة بالتعذيب والاعتقالات، ودعموا الجماعات الإرهابية في المنطقة والعالم. وفي التسعينيات أصبح السودان ملاذاً لأسامة بن لادن وكارلوس الثعلب، وأُدرج اسمه على قوائم الإرهاب بسبب دعمه لميليشيات مخرّبة في أفريقيا والشرق الأوسط. وكانت النتيجة حرب دارفور عام 2003، وانفصال الجنوب عام 2011، وعقوبات دولية كلّفت الاقتصاد أكثر من 700 مليار دولار.
خلال ثلاثين عاماً، لم يبنِ «الإخوان» دولة، بل دمروها. تفشّى الفساد وتفاقم الفقر واشتعلت النزاعات العرقية والجهوية بفعل أجندتهم المتطرفة التي رأت في «الآخر» خطراً يجب إقصاؤه، لا التعايش معه. وحتى بعد سقوط البشير عام 2019 لم يختفِ «الإخوان»، بل انسحبوا إلى الظلال ينتظرون لحظة العودة.
ومع اندلاع النزاع في أبريل 2023 بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، ظهر دور «الإخوان» مجدداً. عبر جناحهم السياسي «المؤتمر الوطني» دعموا الجيش المشبّع بفكرهم، لكن الواقع أعمق.. فـ«الإخوان» يرون في الحرب فرصة للعودة إلى السُّلطة، لمعاقبة الشعب، ووقف مسار التغيير.
أدوارهم مشبوهة، يشعلون الفتنة، يرفضون الهدن، ويستغلون الإعلام لتبرير استمرار القتال. في أبريل 2025 حذّر نشطاء من محاولات الإخوان «إعادة نفوذهم داخل الجيش» مستخدمين الحرب غطاءً لتجنّب المحاسبة. واليوم، مع سقوط الفاشر وفقدان الجيش آخر معاقله في دارفور، يدعون إلى «تعبئة شعبية عامة»، أي إرسال المدنيين إلى الموت تحت شعار «المقاومة الشعبية». هذا ليس دفاعاً عن الوطن، بل استنزافاً متعمداً للشعب لضمان بقاء الإخوان في السلطة غير المباشرة.
«الإخوان» بدعمهم للميليشيات المسلحة يحوّلون السودان إلى ساحة مفتوحة للإرهاب ويهددون أمن البحر الأحمر واستقرار المنطقة، بعدما جعلوا من السودان مركزاً للجماعات المتطرفة مثل «داعش». وما يزيد خطورة المشهد أنه قبل 48 ساعة فقط، خرج تنظيم «القاعدة» علناً، معلناً دعمه لجماعة «الإخوان» في السودان، ومهدداً دول الخليج بأعمال إرهابية، في مشهد يؤكد وحدة الهدف بين التنظيمات المتطرفة مهما اختلفت شعاراتها.
وفي محاولة لصرف الأنظار عن دورهم التخريبي، يُلقي «الإخوان» باللوم على دولة الإمارات العربية المتحدة، رغم أنها الداعم الإنساني الأول للسودان، حيث قدّمت أكثر من مليار دولار في مساعدات غذائية وطبية وإيوائية منذ بدء النزاع، بما في ذلك إنشاء مستشفيات ميدانية وجسور جوية لنقل الإمدادات. هذا التضليل ليس جديداً، فقد كرّروه في غزة حين كانت الإمارات أكبر مانح إنساني، وقدّمت أكثر من 20 ألف طن من المساعدات وبقيت داعمة للشعب الفلسطيني حتى اللحظات الأخيرة من عملية السلام ووقف إطلاق النار.
السودان، أرض الحضارات، لا يستحق الحروب الأهلية والانقسامات العرقية. واليوم، مع تصاعد الضغوط الدولية لوقف النار، على الشعب السوداني أن يرفض هيمنة الإخوان، وأن يطالب بحكومة مدنية شاملة تُحاسب المجرمين وتعيد بناء الدولة بعيداً عن الأيديولوجيا المتطرفة. كما ينبغي أن يدعو إلى وحدةٍ راسخةٍ مع الدول العربية الشقيقة في المنطقة، ومع الأمة الإسلامية جمعاء، وأن يرفض جماعة «الإخوان» ومشروعها التخريبي. لقد ضاع الأمان بسبب «الإخوان» الذين حوّلوا الدين إلى أداةٍ للسُّلطة والفساد. ولن ينهض السودان إلا بقطع صلته بهذه الجماعة التي لم تجلب سوى الدمار. فليكن صوت الشعب أقوى من صوت الفتنة.
*مستشار برلماني