في زمن تتسارع فيه التحولات، وتزداد فيه حساسية المجتمعات تجاه خطاب الهوية، تبرز دولة الإمارات باعتبارها أحد أكثر النماذج استقراراً وتماسكاً في العالم العربي. فالدولة التي تأسست على وحدة القرار السياسي نجحت خلال نصف قرن في بناء هوية وطنية حديثة تتجاوز الروابط الأولية، وتعتمد على مشروع دولة لا على الامتداد القبلي، وهي حقيقة تؤكدها الدراسات الأممية، وبيانات علم النفس الاجتماعي، إلى جانب سياسات عملية رسّخت الانتماء الوطني بوصفه عقداً جامعاً.
وفق تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لعام 2023 احتلت دولة الإمارات مرتبةً متقدمةً ضمن «الدول الأعلى في الترابط الاجتماعي»، وهو مؤشر يقيس قوة الانتماء الوطني مقابل الهويات البديلة، ويشير التقرير إلى أن الإمارات نجحت في بناء هوية قائمة على الإنجاز المشترك، لا على الرابط القبلي، ويتقاطع هذا مع نتائج استطلاع «Gallup World Poll» الذي كشف أن 94% من المواطنين والمقيمين يعرفون انتماءهم الأول بأنه وطني، وهو معدل يضعها في المراتب الأولى عالمياً، ويفوق العديد من الدول المستقرة تاريخياً.
فقد اعتمدت الدولة على مجموعة أدوات عزّزت وحدة الإرادة الوطنية بعضها أصبح اليوم سياسات معتمدة عالمياً. على سبيل المثال أدت سياسات توطين المعرفة دوراً محورياً في فصل الانتماء العلمي والثقافي عن الولاءات الضيقة، فالمبادرات التي تعتمد على إنتاج معرفة محلية مثل ثورة توطين الذكاء الاصطناعي، وتعزيز البحث الجامعي، ودعم المحتوى الإماراتي، وربط التعليم بمخرجات التنمية قد خلقت طبقة جديدة من «المواطن المنتج للمعرفة»، ما جعل الانتماء للوطن مرتبطاً بالفعل، وليس فقط بالنسب.
وفي هذا السياق أصبح إنشاء المركز الوطني للمعرفة ليكون المرجعية التي تجمع الأبحاث والتجارب الوطنية وتقدمها عبر منصة مدعومة بالذكاء الاصطناعي مطلباً مشروعاً وحيوياً للدول، ولا سيما أن دولة الإمارات حسب تقرير منظمة اليونيسكو لعام 2024 تمتلك منصات معرفية وطنية تتمتع بمستوى أعلى من «الثقة المجتمعية»، وذلك بنسبة تصل إلى 35% مقارنةً بالدول التي تعتمد على مصادر خارجية.
وفي جانب الرأي العام يعد إنشاء مرصد الرأي القائم على التحليل العلمي للمزاج الاجتماعي خطوةً ضرورية في عصر الإعلام المفتوح، حيث تؤكد دراسة صدرت من كلية كينيدي بجامعة هارفارد أن الدول التي تستثمر في تحليل المزاج العام تستطيع تقليل انتشار الشائعات بنسبة 45%، وتعزيز الوحدة الوطنية عبر التدخلات السريعة، ولا يمكن تجاهل دور صناع الرأي الوطني، وهم شريحة من الشباب المدربين على التحليل والإعلام الرقمي وفق منهجيات علمية لخلق خطاب هادئ رصين ومتماسك، فالدول التي تمتلك رواية وطنية واضحة، وفق البنك الدولي تحافظ على مستويات أعلى من الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وفق تقارير «The Soft Power Index 2024» تقف الإمارات في المراتب الأولى عالمياً في جاذبية الاقتصاد والثقة الدولية، ويبقى العنصر الأهم هو وحدة الإرادة الوطنية، فالولاء في الإمارات اليوم ولاءٌ للمؤسسات والقانون والدستور، لا للقبيلة وحدها، وهذا ما تؤكده بيانات الهيئة الاتحادية للتنافسية التي تُظهر أن 85% من الشباب يرون أن المواطنة هي الإطار الأول للانتماء، وهي نتيجة تنسجم مع النموذج الحديث للدول الناجحة، والذي وصفه المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما بأنه «شرط لازم لاستقرار الدول في القرن الحادي والعشرين».
إن هوية الإمارات ليست مجرد رواية اجتماعية، بل هي مشروع دولة ناجح استطاع تحويل التنوع إلى قوة، والانتماء إلى وعي، والوطنية إلى ممارسة يومية، وفي عالم يميل نحو الانقسام تقدم الإمارات نموذجاً نادراً لهوية وطنية تتجدد مع الزمن، ولا تُختزل في ماضٍ قبلي بل تنطلق نحو مستقبل مشترك يجمع الجميع تحت راية واحدة.
وتشير تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2023 إلى أن الإمارات تُعد من أسرع الدول في العالم التي حققت تراكمات في «قدرات الدولة» (State Capacity) أي قدرة مؤسساتها على توفير الخدمات، وتقليل البيروقراطية، وتحقيق معدلات عالية من الثقة بين الحكومة والمجتمع،
وتشير بيانات البنك الدولي (2024) إلى أن الإمارات أصبحت ضمن أكبر عشر دول في العالم في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، قياساً بحجم السكان، وهو إنجاز يفسّره الخبراء بوجود بيئة تشريعية مستقرة ونظام اقتصادي مفتوح وسياسات جذب تعتمد على الكفاءة لا على الحجم، وكما يقول عالم الاجتماع أنتوني جيدنز: «إن الدول التي لا تخشى التغيير هي وحدها التي تستطيع إعادة تعريف مكانها في العالم»، ولا شك أن الإمارات مثال واضح على ذلك بفضل الرؤية الواضحة للقيادة الرشيدة الاستثنائية للدولة.
*كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات.