شهدت الزيارة الأولى للبابا ليو الرابع عشر إلى تركيا ولبنان، من السابع والعشرين من نوفمبر إلى الثاني من ديسمبر 2025، حضوراً لافتاً لخطاب يركّز على تعزيز السلم المجتمعي وتوسيع مساحات التفاهم بين شعوب المنطقة. وقد حرص البابا خلال هذه الجولة على التأكيد على أهمية التعاون وتطوير العلاقات وترسيخ مفاهيم التواصل الإيجابي بين المكوّنات المختلفة، بما يعكس توجهاً نحو رؤية أكثر انفتاحاً وتكاملاً في المنطقة.
ورغم أن دولة الإمارات لم تكن ضمن جدول الزيارة، إلا أن حضورها بدا واضحاً في خلفية المشهد الدبلوماسي والفكري للرحلة. فقد أصبحت التجربة الإماراتية في التعايش ونموذجها في العلاقات بين الثقافات أحد المرتكزات التي يسترشد بها الفاتيكان في مقارباته الإقليمية. وخلال الأعوام الماضية، تطوّر التعاون المؤسسي بين أبوظبي والفاتيكان بشكل لافت حتى بات يُنظر إلى الإمارات اليوم بوصفها شريكاً محورياً في صياغة رؤى جديدة للتواصل الإقليمي. وقد عكست اللقاءات التي سبقت رحلة البابا وأثناءها هذا التحول بوضوح، مؤكدة أن أبوظبي أصبحت نقطة ارتكاز أساسية في التفكير الاستراتيجي للفاتيكان تجاه المنطقة.
كما أن تركيز البابا المستمر على قيم الأخوّة الإنسانية والتفاهم والوحدة يتقاطع مع المبادئ التي رسّختها الإمارات عبر مبادراتها وبرامجها المختلفة منذ عام 2019. واللافت أن لقاءه الأخير في الفاتيكان مع السفير الدكتور خالد غانم الغيث، الأمين العام للجنة العليا للأخوّة الإنسانية، جاء قبل أيام فقط من بدء جولته. وقد عبّر البابا خلال اللقاء عن تقديره للنموذج الإماراتي في تعزيز التعايش وعن رغبته في توسيع نطاق التعاون.
وتحتضن الإمارات مجتمعاً واسعاً من المقيمين من خلفيات وثقافات متعددة، وقد نجحت عبر إطارها القانوني ونهجها الاجتماعي في توفير بيئة يسودها الاحترام المتبادل. وهذا ما يفسّر التقارب الواضح بين رسائل البابا ومشروع الإمارات لبناء مجتمع متماسك يقوم على التفاهم والشراكة. ومن هنا، تُطرح احتمالات زيارة جديدة للبابا إلى الإمارات خلال عام 2026، بما يمثّل استكمالاً للمسار الذي بدأ قبل سنوات.
ويرى محللون أن البابا يسعى إلى تعزيز قنوات التواصل مع دول الخليج لأغراض تتصل بالاستقرار الإقليمي، وهي مهمة تمتلك الإمارات فيها رصيداً واسعاً من الثقة والعلاقات. كما أن محور «صناعة مساحات للتسامح» الذي ركّز عليه البابا خلال زيارته للبنان ينسجم مع البرامج المتنوعة التي تقودها الإمارات عالمياً، من فعاليات ثقافية إلى مبادرات حوارية تشارك فيها شخصيات دينية وفكرية من دول مختلفة. ويمكن تكييف هذه النماذج لتصبح أدوات عملية في جهود إعادة بناء المجتمعات التي تضررت من الصراعات.
وفي إسطنبول، تناول البابا قضايا تتعلق بالتطورات التقنية والذكاء الاصطناعي، وهي مجالات تتوافق مع التوجهات الإماراتية الرائدة في تطوير إطار عالمي لأخلاقيات التكنولوجيا. وهذا يفتح الباب أمام مبادرات مشتركة بين الإمارات والفاتيكان. ومع اقتراب نهاية عام 2025، يتضح أن الإمارات والفاتيكان يتحركان في اتجاهات متقاربة فيما يتعلق بأولوية السلم الاجتماعي وبناء بيئات مستقرة تقوم على التفاهم. وتزداد التوقعات بشأن جولة خليجية جديدة للبابا في 2026، قد تشكّل محطة مهمة في مسار التعاون بين الطرفين.
إن الخطاب العام للبابا ليو في جولاته الأولى يبرز توجهه نحو رؤية تقوم على تعزيز الأخوة بين الشعوب، وترسيخ ثقافة التفاهم والبحث عن مقاربات جديدة للتعامل مع التحديات الإقليمية. وهذه الرؤية تتقاطع بشكل مباشر مع الدور المتنامي للإمارات، التي أصبحت شريكاً أساسياً في تطوير مقاربات حديثة للتعايش والتواصل على مستوى المنطقة. لقد تحولت أبوظبي من محطة زيارات رمزية إلى شريك فعلي في بلورة المبادرات الإقليمية المرتبطة بالسلام والاستقرار.
واليوم، يتقدم هذا الدور بخطى ثابتة ويكتسب زخماً متصاعداً فيما يزداد الاعتراف الدولي بقدرته على إعادة صياغة مفهوم التعايش في الشرق الأوسط. ومع تنامي هذا الحضور تترسخ الإمارات كفاعل لا يمكن تجاوزه في أي رؤية مستقبلية للسلام الإقليمي، وشريك لا غنى عنه في تشكيل ملامح المرحلة القادمة.
*مستشار برلماني