الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خذلنا العكاز..!

خذلنا العكاز..!
19 نوفمبر 2014 23:55
مع الإعلان عن فوز الكاتب الفرنسيّ باتريك موديانو بجائزة نوبل لهذا العام -خرجت مثل كلّ مرّة - نفس الإشكاليات والأسئلة لتطفو على المشهد الأدبيّ العالميّ : لماذا موديانو ؟ لماذا فرنسا من جديد، ولم يمرّ سوى ستّ سنوات فقط على فوز مواطنه جان ماري لوكليزيو بنوبل، أضخم وأشهر جائزة عالمية للأدب؟. وئام غداس لا مردّ للكلام الكثير حول الجائزة – الكلام نفسه الذي يتكرّر تقريباً كلّ عام - سوى كثير من التوقعات والانتظارات بناء على خصوصيّة كتّاب معيّنين، شهرتهم ومدى تأثيرهم على جمهور القراءة سواء المحليّ أو العالميّ، والقدر الهائل من الأسماء  المرشّحة، ترشيح ناتج عن أذواق ورؤى مختلفة، بعيدة وأحياناً متنافرة، ففي النهاية ليس للأدب أهداف مسطّرة أو طرق ممنهجة لبلوغ نقطة واحدة، فتوقعات شرائح المجتمع من الأدب ليست موحدة على الإطلاق فنتيجة الكتاب لا تتحدّد من خلال مقاييس معينة ولكن بالرجوع دائماً إلى المتلقّي، ما الذي يبحث عنه داخل الكتابة وماذا وجد؟ وإلى ايّ مدى تحقّق اكتفاؤه واستفادته أو تأثّره. انتقاداتوسط ردود الفعل المنتقدة للجائزة ــ كالعادة ــ احتلّ الجهل العربيّ مكانه السنويّ؛ فهذا الكاتب أيضاً غير معروف لدى القارئ العربيّ، وإذا كان عكّاز العرب الدائم عدم وجود ترجمات مثلما كان مع الفائزة السابقة القاصّة إليس مونرو فهذه المرّة خذلنا العكاز مع الأسف فلمونديانو عدد جيّد من الروايات المترجمة إلى العربيّة، وهي ستّ روايات : «شارع الحوانيت المعتمة» (سلسلة روايات «الهلال»، ترجمة محمد عبد المنعم جلال ــ 2009)، «مجهولات» (ميريت ــ ترجمة رنا حايك ــ 2006)، «مقهى الشباب الضائع» (الدار العربية للعلوم ناشرون _2009)، «الأفق» (منشورات «ضفاف» و«الاختلاف» ـــ ترجمة توفيق سخان ـ 2014. وبالتالي لا تفسير منطقيّ لتفاجئ القارئ العربيّ، لكنّه مع الأسف بقي رهيناً لسلطة الشهرة والصيت الذي يسبق الكاتب، فكانت قراءاته العالميّة محصورة بأسماء معيّنة - ليس الأدب الفذّ حتماً ما يروّج لاحتلالها الساحة والعقول داخلاً وخارجاً - بل كلّ تلك العوامل التجاريّة البحتة والتى غالباً لا يكون لها دخل بالأدب، ولكنها تتدخّل بشكل لا يحتمل التشكيك في أن تصنع من الكاتب نجماً يحاكي نجوم السينما أو الغناء أو الرياضة. ولم يكن فوز موديانو مفاجأة للعرب فقط، فالكاتب المجهول لدى العرب، مجهول كذلك لكن بدرجة أقلّ في الوسط الثقافيّ الإنجليزي والأميركيّ مع أنّ العدد السابق نفسه من الروايات مترجم إلى اللغة الإنجليزية! إلّا أنّ مفاجأة الإنجليز والأميركان كانت نابعة بالأساس عن خيبة كبيرة في فوز أسماء كانت مرشحة قوية لجائزة نوبل على غرار توماس بينشون وهاروكي موراكامي، وفيليب روث الذي أكّدت شركة «لادبروكس» البريطانية للمراهنات قبيل الإعلان عن النتيجة أنّ له حظوظاً كبرى للفوز بالجائزة هذا العام. كاتب الفقدان وسط هذا الذهول العالميّ فاز إذن كاتب الفقدان والخسائر الفادحة، «كاتب فن الذاكرة الذي عالج المصائر الإنسانية الأكثر عصياناً على الفهم، وكشف عالم الاحتلال». هذا ما جاء في بيان لجنة الأكاديمية السويدية خلال  الإعلان عن الجائزة .. باتريك موديانو ابن الممثّلة الفلمنكية، والأب اليهودي السكندراني الغائب الدائم، لكن ليس عن ذكريات طفولة موديانو البائسة التي بقيت عالقة، معلّقة بين وعيه ولا وعيه، بل وتُمسك بكلّ خيوط حياته لتحرّكها وتصنع تفاصيلها. لم يتخفّف موديانو مع الزمن من وطأة ماضيه، على العكس من ذلك، فكلّ ما فعله الرجل أن انقاد لها، فاتحاً صدره ومسامه ليتحوّل إلى مستودع آمن لهذه الذكريات، أكثر من ذلك قضى موديانو سنواته ليحفظ ذاكرته وكتب لأجل ذلك، كان يمسح في كل رواية غبار السنوات عن الذاكرة وكلّما همّت التفاصيل البعيدة بالغرق بين أمواج اليوميّ والوقت مدّ قلمه لينقذها ، هو هكذا يعيش داخل الماضي ويمشي إلى الأمام ممعناً في السير إلى الخلف. يقول: «ولدت فوق كومة من الجثث والأنقاض لأب يهودي وأم فلمنكية التقيا في باريس زمن الاحتلال»، الأب الذي كان متورّطاً في الأعمال المشبوهة والذي عاش تائهاً بين البلدان هارباً، يسير خارج القانون، وقد اقتصرت علاقته بهذا الوالد على لقاءات قليلة مسروقة، وكلمات مقتضبة حتى يفقده إلى الأبد في ظروف غامضة. موديانو الذي لا يحسن العيش إلا تحت ظلال شجرة العائلة، الشجرة المنزوعة جذورها، الخضراء داخل روحه، ومن نضاله المستميت ضدّ النسيان يسقيها ابن الفقدان والنقصان والألم والتشرّد والتمزقات النفسيّة. هو لا ينسى أيضاً أخاه الصغير الذي مات باكراً، كان أضعف من أن يتماهى مع واقع خالٍ من الأحباب. بالذاكرة وحدها موديانو غير مضطرّ بالمرة أن يتأقلم مع حادثة كموت أخيه، فينتحل اسمه وتاريخ ميلاده، لا يُحييه وحسب بل ويعيش فيه لسنوات طويلة. المقيم في الذاكرةليست نوبل هي الجائزة الأدبية الأولى التي يحصل عليها باتريك موديانو ، فقد نال عدداً من الجوائز الأوروبية والعالمية من بينها «غونكور» الفرنسية التي نالها عام 1978م عن روايته «شارع الحوانيت المعتمة «، الصادرة بالعربيّة عن دار الهلال ترجمة محمد عبد المنعم جلال عام 2009، ولئن رأى بعض المنتقدين أنّ موديانو ليس بالاسم الأحقّ ببريق نوبل مقارنة بأسماء أخرى ، أو أنّ الجائزة كانت هذا العام من قبيل تكريس المركزيّة الأوروبية مرّة أخرى وأخرى، فليس بإمكان أحدٍ إنكار مدى أهميّة أدب هذا الكاتب وخصوصيّته الممعنة في عرض يوميّات الحرب والمقاومة والاحتلال، وهو من أسّس عودة جديدة للرواية الرسميّة لزمن الاحتلال، تمزّقاته، عقده وتشظياته وحلّ رموز الأسئلة الوجوديّة وقضايا الهويّة، كاتب الذاكرة التي لا تشحب ولا تشيخ، الحافظ لأشدّ تفاصيلها صغراً والمدافع عنها بشراسة ضدّ «الجرذان الذهنيّة « التي وحسب تعبيره تهمّ كثيراً بالشروع في التهام ذاكرته أو أجزاء منها ولا شيء يحميه منها إلّا: الكتابة. بعد فوزه ستغزو كتبه حتماً مكتبتنا العربيّة وسنأمل أن يبلغ المترجمون دقّة لغته وشدّة خصوصيتها، خصوصيّة «موديانو» التي علينا شكر نوبل بأن خلقت فرصة لأن نتعرّف عليها وبرأيي هذا جزء من مسؤولية الجوائز، التي يجب أن تخرج من تكريس الأسماء المكرّسة، ولكي نكسر نحن سقف التوقعات التي غدت بديهية في حالات كثيرة ، هكذا كسرت نوبل 2014 أكبر التوقعات، والتفتت إلى ناحية أخرى من الأدب جديرة بالالتفات حتماً. سارتر ونوبل حصل جان ـ بول سارتر على جائزة نوبل عام 1964 ورفضها، وقال حينها: الذي حصل كان طعنة في الظهر. تصور أن رجلاً يوضع داخل زجاجة ويسلط عليه الضوء الكثيف ما الفارق، في هذه الحال، بين الرجل والزجاجة؟ الرجل الزجاجي لم يتحطم، ورفضت الجائزة لأني لا أستطيع التواطؤ مع الضوضاء، أنا أصنع ضجيجي الخاص. قد يكون بدائياً، لكنه يحمل ما في داخلي وهذا هو الأهم. قطعاً لم تراودني الرغبة في الشهرة. إنني شهير رغماً عني. حين أبلغت بنيلي الجائزة قلت لــ «سيمون» (دوبوفوار): «لماذا لا يشترون بثمنها عكازات للطاعنين في السن أو للطاعنين في الجهل؟». كتاب ثورة نوبل شافي أبين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©