الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فتنة اللغة.. وبراجماتيتها

فتنة اللغة.. وبراجماتيتها
26 نوفمبر 2014 02:35
جهاد هديبينطلق المثقف الإماراتي الدكتور محمد علي الملا، الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية، وأستاذ علم اللغة الاجتماعي في معالجة القضية المعرفية التي يطرحها في هذا الكتاب من منطلقين أساسيين: الخبرة الشخصية من جهة، ثم المقدرة الواضحة على تحويل جملة الخبرات الشخصية في غير مجال إلى أفكار ومعارف، وذلك في إطار نظري ـ تطبيقي يستند بالأساس إلى كونه قد حاز شهادة الدكتوراه في علم اللغة الاجتماعي، فضلاً عن إتقانه لغة أخرى واحدة على الأقل، هي الإنجليزية إلى جوار العربية، أي أن الرجل يمتلك حصيلة معرفية في حقله تؤهله كي يقول ما لديه فيه على نحو مختلف عن آخرين ينتمون إلى الحقل المعرفي ذاته، وهذا أمر قلّما وأتى أصحاب الخبرات على المستوى العربي، خاصة أولئك الذين يشتغلون في الحقل الدبلوماسي. صدقيةيمنح هذا الأمر الكتاب الكثير من صدقيته المعرفية مثلما يجعل القارئ، والمتلقي عموما، على قناعة كبيرة بصناعته من حيث هو تعبير عن أفكار الباحث حتى لو اختلف معه في الجدل حولها، يضاف إلى ذلك الجهد الواضح الذي بذله الدكتور محمد علي الملا في تبسيط لغة الكتاب إلى حدّ لافت للانتباه ما يجعل قارئاً عادياً، أو قارئ الجريدة يفهم تماما ما الذي يرمي إليه الرجل، مستفيدا من تخصصه الأكاديمي في علم اللغة الاجتماعي الذي يرتكز على أن اللغة هي في الأساس أداة تواصل وتعبير، بالمعنى الثقافي والحضاري، وليست أداة انغلاق على الذات والآخر، إذ إن «الآخر» بكل معانيه يحضر في هذا الكتاب على نحو ملّح، بل إنه القضية الأساسية التي يتناولها الكتاب. ثمة أمر ما يتطرق إليه الدكتور محمد علي الملا في تقديمه للكتاب من المفترض به أن يثير «استغراب» العقل العربي، يشير إلى أنه استقال من الجهاز الدبلوماسي، لأنه لم يجد نفسه فيه ولأنه لم يكن يفهم تلك الالتباسات التي تحدث بين الوفود الدبلوماسية الذي يتسبب بها الاختلاف الثقافي والحضاري، فضلاً عن عوامل أخرى أكثر جوهرية ستكون هي موضوع البحث في أمر التواصل الحضاري مع الآخر، عندما يستهدف تحقيق مصالح بعينها لدولة ومجتمع المحاوِر والمحاوَر في إطار من لعبة المصالح، سواء المشتركة أو غير المشتركة، وفقا للتعبير السياسي السائد. اعترافهذا الاعتراف المبكر من الدكتور محمد علي الملا هو أساس الاستغراب، لكنه من زاوية أخرى يعبّر عن «وعي شقي» فردي من ذلك النوع الذي يحول إلى حافز قوي لـ«معرفة» أين يكمن الخلل الذي دفعه إلى الاتجاه نحو استكمال تحصيله العلمي في حقل يمكنه من فهم الإشكالية التي تحولت لديه من إشكالية «دبلوماسية» يواجهها هو إلى إشكالية معرفية. ما يعني أنه في تربة هذا «الوعي الشقي» نبتت بذرة السعي إلى معرفة الآخر، ثقافيا وحضاريا، عبر الوسيط اللغوي؛ أداة الاتصال في أي حوار، أو تفاوض، أو جدل يهدف إلى الوصول إلى نتائج بين شخصين ينتميان إلى ثقافتين وحضارتين متغايرتين. يشخص الدكتور الملا في هذا الكتاب الإشكالية في عدم المقدرة على فهم «الخطاب» الذي هو هنا «الخطاب الدولي» في المفاوضات السياسية، بدءا من الدعوة إلى «فهم» ثقافي وحضاري في سياق تواصلي واتكاء على نماذج وتوصيفات وأحداث وحوارات بروتوكولية جرت جميعا في الاتجاه الخطأ في مسعى منه لإيضاح السياقات التي أفضت إلى ذلك، والنتائج السلبية التي ترتبت عليها، حيث الإشكالية الأساسية تكمن في طبيعة الاستخدام اللغوي والمواقف الثقافية والأخلاقية التي تعكسها مثلما في ردود الفعل تجاهها وما يمكن أن يترتب على ذلك من «برود»، أو «تجميد» للمصالح التي هي في آخر الأمر مصالح شعوب، النقاش في الكتاب يدور في هذا المستوى. براجماتيةوبهدف تجاوز هذه الإشكاليات، ينطلق الباحث محمد علي الملا من وجهة نظر تنحاز باتجاه ما يسميه «البراجماتية اللغوية»، حيث «ذهب عدد من الباحثين في علم اللغة الاجتماعي إلى أن البراجماتية هي الاستخدام الفردي للغة في موقف اجتماعي»، في سياق نظرة شمولية تكاملية للغة «تحتم علينا الجمع بين بُعدي اللغة: البعد اللغوي، والبعد الاجتماعي الحضاري»، وذلك في إطار وظيفي واضح، فالبعد اللغوي هو الذي «يعطي المعنى الدلالي» على اعتبار أنه «نابع من معاني المفردات والعلاقات النحوية التي تربط بين هذه المفردات لتحدد وظيفة كل كلمة في الجملة أو العبارة اللغوية»، أما البعد الاجتماعي الحضاري، فهو الذي يمنح «المعنى المقصود، وهو المعنى المرتبط بالعوامل البراججماتية والنفسية والانثروبولوجية في الوسط الاتصالي أثناء الحوار أو المحادثات». وفي الأساس، يبدو أن الدكتور محمد علي الملا أميل إلى التحليل الذي «يفترض أن الكلام أو الأداء اللغوي يعتمد على اختيارات فردية للأساليب والتعابير اللغوية التي تنسجم مع العوامل العديدة التي تملي على المتكلم ذاك الاختيار في الموقف الكلامي»، أي أن الأداء التفاوضي، في نهاية التحليل يرتبط أيضا بعوامل فردية أخرى ترتبط بمستوى الذكاء الفردي والاجتماعي للشخص المفاوِض والذي يتجلى أثناء الحوار بالمقدرة على استيعاب «الآخر» المفاوَض، وكذلك على سرعة البديهة في فهم وتفهم الأسس الثقافية والحضارية التي أملت عليه، أي المفاوَض، هذا الموقف الكلامي أو ذاك، ذلك أن الدكتور يخلص، من خبرته ومعارفه، إلى أن البراجماتية هي «تلك الدراسة التي تعنى بتأثير العوامل الاجتماعية والحضارية في المعنى اللغوي للكلام المنطوق في الأنشطة الاتصالية المتبادلة»، يعني هذا الأمر أيضا أن دراسة تفاصيل الحوار والمواقف الكلامية ببعديها الاجتماعي والحضاري التي تحدث أثناء المفوضات والحوارات الجانبية والأساسية هي أيضا تشكّل المادة الخام الأساسية التي ستصبح مجالاً معرفياً خاصاً بـ«البراجماتية اللغوية». قواعديشكل هذا الأمر الأساس النظري الذي ينطلق منه الدكتور محمد علي الملا في دراسته هذه ذلك أن «معنى الكلام المنطوق جزء من حياتنا، وله علاقة وثيقة بكيفية الاستخدام اللغوي من خلال قواعد كلية شمولية مستنبطة في شكل الحياة»، بحسب ما ينقل الدكتور الملا في كتابه عن أحد علماء اللغة الأميركيين. غير أن الفضاء المعرفي، إذا جاز التوصيف، الذي يدور فيه بحث الدكتور الملا لا يتجاوز «الخطاب الدولي» وفقا لمرجعياته الثقافية والحضارية في أثناء التفاوض الدبلوماسي، إلا أن الكتاب يمكن بما ينطوي عليه من أفكار من الممكن القياس عليه في فضاء اجتماعي أوسع يخص الفرد المتكلم في سياق اجتماعي وحضاري ما، ذلك أن ما يحدث بين الدبلوماسيين أثناء المفاوضات من الممكن أن يتكرر بين الاقتصاديين ورجال الأعمال، بل والمثقفين والمحللين السياسيين قبل هؤلاء. يكتب الباحث: «إن الكلمات أو المفردات التي نستخدمها في كلامنا وحواراتنا مع الآخرين موجهة لتحقيق أهدافنا، ولها تأثيرات متبادلة مع الآخرين الذين نتبادل الحوار معهم، وفي مثل هذه الأنشطة الكلامية، فإن استخدام الكلمات والتعبيرات، وكذلك تفسيراتها يعتمد إلى حدّ كبير على السياق الكلامي والمقام الاتصالي». يركز الباحث في كتابه على ضرورة أن يجري فهم الدور الذي تقوم به العوامل الحضارية والثقافية في إحداث نوع من الانزياحات في المعنى، إذ تقوم هذه العوامل بتغيير المعنى إلى هذا الحدّ أو ذاك وعلى هذا النحو أو ذاك أثناء الأنشطة الاتصالية بين المتفاوضين، خاصة وأن المعنى قد لا يكون مجردا أو مفهوما في أثناء الردود، بل يرتبط بحركة الجسد وشكل الإشارات التي تخرج من اليدين أو من تعابير الوجه الإنساني، عندما تحدث تلك الانزياحات في المعاني، بالتالي فإن «المعاني والمفاهيم المتولدة لم تعد ملكا لعلم المعنى، أو نابعة من البعد الظاهري للغة، ولكنها معاني ومفاهيم منتجة «موقفياً واجتماعياً وحضارياً بتأثير الجوانب والعوامل البراجماتية والأثنوجرافية للغة». الكتاب: الخطاب الدولي - تصادم حضاري أم حوار ثقافي/ »علم اللغة الاجتماعي ينظر في القضية ويفصل فيها» المؤلف: محمد علي الملا الناشر: مجموعة علي الملا عدد الصفحات: 240
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©