الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

استجلاء "الحِيْرَة"

استجلاء "الحِيْرَة"
21 فبراير 2019 00:30

أن تجاور البحر، وتكون مصغياً لاندفاعات الهواء وهي تخبط في أشرعة لامرئية، وفي لجّة معطاءة، تستدعي ذخائر الغيب البرّاقة، وكنوز النهايات الضاجّة بوعودها، ثم تحظى بهويتك الشعرية الخالصة، الممتزجة بسحر الترحال، وألق المغامرة، فأنت الرابح دون شك، لأنها الهوية المتشكّلة من صخب القيعان، ونحت الرياح، ودأب الخيال ودفقه وارتهانه لخرائط الماء على البياض الأكيد للرمل، ذلك البياض المزدحم بطلاوته وكأنه حبيبات السكّر، الوهّاجة على خدّ الليل، والوضّاءة مثل اللؤلؤ المنثور، وعندما تطأ ما تبقى من هذا الرمل الناصع والثاوي في أبديته، وانتمائه المتواصل لحقب بعيده وأزمان مديدة، تكتشف أن أرواحاً فيه ما زالت تندلع، وأشواقاً به ما زالت تتّسع، وأطيافاً حوله ما زالت تلتمع، مسوّرة بهذا الحضور المبجّل، والعوْد الدائم، والغياب الشاخص.

امتلكت منطقة «الحيرة» بالشارقة هويتها الشعرية منذ البداية، ومنذ ارتباطها المبكر بجدلية الموج، مدّا وجزرا، استقرارا وسفرا، ثباتا وحركة، إقامة وهجرة، ورغم هذا القلق المشوب برغبة حقيقية في استجلاب الطمأنينة، فإن سكان «الحيرة» الأوائل استطاعوا ترويض «حيرتهم»، وصنعوا التوازن المطلوب بين نداء «البرّ» و إغواء «البحر»، فعرفوا السرّ الكامن في جغرافية الساحل، في صوابية مجاورته بالأحرى، واستبصار ما تهبه السواحل من خيرات كامنة، ومن مديات مفتوحة على الأزرق الكبير والمضطرم، الحافل بالفرص والمفاجآت والمغانم، اتساقا مع المثل القائل: «الحمد مغنم، والمذّلة مغرم»، خصوصاً وأن القبائل العربية القديمة التي سكنت الحيرة فترة ما قبل الإسلام، صمدت أمام تقلبات الطبيعة، فقاومت لهيب الصيف، وزمهرير الشتاء، واحتاطت من قسوة الحرّ، وشدة البرد، وتكيفت مع تطرّف المناخ واستثمرت في الوقت ذاته فترات اعتداله، فأمام هذه الفرجة الدرامية المصاغة على مسرح البحر، كان على سكان الحيرة الأوائل أن يتقنوا التعامل مع مشهديته الصارخة، كي يكونوا مؤهلين لاقتحامه وكشف أسراره وفتح مغاليقه، من خلال القوارب الصغيرة والبسيطة في البدايات الأولى لهذا الكشف، وصولا إلى السفن الكبيرة أو «الأبوام» بعد عقود طويلة لاحقة.

غموض
يرافق غموض المرجعية اللغوية والاصطلاحية لاسم «الحيرة»، غموضٌ آخر يتمثل في تأويل المفردة ذاتها واشتقاق أصلها، فهناك من يرى أن سكانها الأوائل نقلوا الاسم من موطنهم الأصلي في العاصمة التاريخية للمناذرة، جنوب وسط العراق، حيث فقدت «الحيرة» بريقها وهيبتها بعد تحول الكوفة لعاصمة الخلافة الإسلامية في العام 638 ميلادية، وازداد الأمر سوءا بعد الاجتياح المغولي لبغداد عام 1258 ميلادية مما اضطر الكثير من قاطنيها لهجرها والبحث عن مناطق أكثر استقراراً وأماناً في شبه الجزيرة العربية، وهناك من يرى أن كلمة الحيرة هي لحن في القول، أو صيغة نطق في اللهجة المحلية، تُستبدل الجيم فيها بالياء، لأن أصل الكلمة بالفصحى هو «الحجرة» أو المكان الذي يتم فيه تخزين المياه، سواء مياه الآبار أو الأمطار، أو المياه المنقولة على ظهور الدواب من مناطق بعيدة مثل منطقة «الفلي» (أو «الفلج»)، وغيرها من المناطق المتوفّرة على مياه جوفية عذبة، وهناك من يفسر الاسم اعتماداً على منشئه السوسيولوجي البحت، فهو اسم يلخّص حيرة أهلها وحيرة المكان ذاته الواقع بين عجمان والشارقة، فبدت «الحيرة» وكأنها تنتمي لحدودها وقوانينها وأعرافها الخاصة بها فقط، وظلت على هذا الحال لفترة زمنية طويلة، قبل أن تحسم أمرها وتصبح جزءاً حيوياً من إمارة الشارقة.
وهي على كل حال آراء واستنتاجات قابلة للنقاش، ولم يتم اعتمادها بسبب فقر الوثائق المدونة المتعلقة بفترة نشوء وظهور منطقة «الحيرة»، إلا فيما ندر، وإلا فيما ذكرته بعض السجلات من أسماء وأنساب وعائلات سكنت الحيرة في فترات مختلفة.

عزلة
كانت الحيرة عند بداية توافد عائلات معينة إليها معزولة نوعاً ما عن المناطق السكانية الأكثر كثافة في الشارقة مثل منطقة «الشرق» التي تفصلها عن الحيرة منطقة «الفشت» باعتبارها منطقة عامرة لفترة من الزمن، قبل أن تدهمها موجات المدّ العالي للبحر، والتي لم تهيء ظروفا مناسبة للاستقرار فيها، فتعطلت حركة الحياة وهجرها الناس، وبالتالي كان لعزلة «الحيرة» جوانب إيجابية عندما يتعلق الأمر بحيازة صفة «النوعية» أو «النقاء»، عوضاً عن ملابسات التهجين والاختلاط، والتي يمكن لها أن تؤثر على المكتسبات الاجتماعية الفريدة التي تمتع بها أهالي الحيرة، مكتسبات وضعتهم في إطار المنظومة المنسجمة، المطلعة على أدق التفاصيل وإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة القلاقل الداخلية، والتهديدات الخارجية، والأزمات الطارئة، ساهم هذا الانسجام في خلق نسق محافظ دينياً وسلوكياً، ولكنه أتاح لشريحة واسعة من سكانها التعرف أيضاً على فنون الكتابة والقراءة التي خرجت بعد ذلك من عباءة الحيز الفقهي والعلوم الشرعية لتلامس فضاءات معرفية أخرى قدمتها دواوين الشعر الفصيح، وكتب التراث والتاريخ بما احتوته من قصص وحكايات وملاحم، فتحت أمام المطلعين عليها مجالاً واسعاً للتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، وما تضمنته هذه الثقافات من إسهامات أدبية غزيرة وملهمة.

أسبقية
وتشير المرويات القديمة إلى أن أهالي الحيرة كانوا في الغالب يستخدمون السفن للوصول إلى المناطق القريبة المجاورة لهم بدلاً من المشي على الأرجل أو الاستعانة بالإبل، ووسائل النقل البريّة الأخرى، وهذا الأمر يؤكد أسبقيتهم في الاشتغال على بناء السفن والقوارب قبل غيرهم من سكان الساحل الإماراتي المترامي الأطراف.
هذا التنقل المؤقت كان هدفه جلب البضائع والخامات الطبيعية والموارد الغذائية غير المتوفرة في المكان، وهو التنقل الذي ساهم أيضاً في الاستزادة بمعارف وخبرات جديدة لخلق بيئة مستقرة في الحيرة، بيئة قوامها الزراعة والصيد البحري معاً، وهو أمر نادر أن تجتمع هاتان المهنتان في مكان واحد، ولكن وجود الآبار العذبة في الحيرة ـ كما يبدو ـ كان له الدور الأكبر في استحداث مزارع النخيل والحمضيات وغيرها، واستثمار مزارع البحر الزاخرة بالأسماك واللآلئ والحجر المرجاني.
إنها البيئة المستقرة ذاتها التي جعلت قبائل وأسراً بعينها مثل العويسات والجراونة والمناصير تسكن الحيرة، وتصنع حراكها الاجتماعي والتعليمي منذ نهايات القرن التاسع عشر، وحتى أواسط القرن العشرين الماضي، فكانت هذه الحاضرة التنويرية رغم محدودية ساكنيها مركزاً لإشعاع ثقافي عتيق انطلق في مستهله من خلال كتاتيب تعليم القرآن وحفظه، ثم تنامت من خلال المدارس التطورية التي اهتمت بتدريس النحو والصرف ومبادئ الرياضيات، وتأكّد تأثير هذا الإشعاع الثقافي مع ظهور المدارس النظامية في أواسط الستينيات من القرن الماضي.

خصوصية
ويوضح لنا المؤرخ سلطان بن حرمول الذي يمتلك معرفة وافية بأهل الشارقة وبمناطقها القديمة وتطورها التاريخي أن الحيرة في بداية نشوئها كانت أقرب للقرية، واستفادت من موقعها بين الشارقة وعجمان كي تحوز خصوصية جعلتها محميّة من تأثير الهجرات الوافدة، وتداخل الأجناس والألسن، وهو الأمر الذي أكده لنا «ناصر العبودي» الباحث في التراث والآثار، ولذلك كانت الفصاحة الشعرية والبلاغة اللغوية هي السائدة والمهيمنة على النتاجات المكتوبة لأدباء الحيرة.
ويضيف المؤرخ سلطان بن حرمول إلى أن الحيرة ضمت الشوامس، وعائلتي المحمود والناخي، وعائلات أخرى تحولت بعد ذلك إلى مدينة الشارقة، منهم قوم: بو قفيل، وقوم بوكنّون، وقوم بو شمّا، وكانت هناك مجموعة من قبيلة الطنيج تسكن الحيرة، وقد افتتح في الحيرة ـ كما يوضح بن حرمول ـ عدة مدارس، منها المدرسة التيمية التي افتتحها الشيخ مبارك بن سيف الناخي في العشرينيات، ومدرسة الإصلاح التي افتتحها محمد بن علي المحمود في الثلاثينيات من القرن الماضي، وقد وفد على الحيرة علماء من «نجد» و»الزبير» منهم قضاة وعلماء دين. ويستطرد بن حرمول قائلا: إن الحيرة استقطبت أيضا عائلات: المالك، وأبوالحيف، والخضر، ودريس، وغيرها من العائلات التي توزع أبناؤها بعد ذلك في مناطق الشارقة المختلفة، بعد تغير ظروف الحياة وتطور المدن وبناء المساكن الشعبية في المناطق البعيدة عن الساحل منذ أواسط السبعينيات.

فرادة
ويشير الباحث ناصر العبودي إلى دلائل ظاهرة في بداية الثمانينات تؤكد على وجود أقدم مدرسة للتعليم النظامي في الشارقة بمنطقة الحيرة، وأنه استقى هذه المعلومة في الثمانينيات من مصدر موثوق، هو الراحل عبدالرحمن محمد المدفع، ويضيف العبودي أنه لا يوجد حالياً أثر لهذه المدرسة بسبب المدّ العمراني الذي جرف معه بقايا البنى الأثرية المهمة في الحيرة. ولفت العبودي إلى أن مثل هذه المدارس التي يعود زمن تأسيسها إلى الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن الماضي كانت تركز على تدريس مادتين أساسيتين هما اللغة العربية والحساب، وبالتالي فإن ظهور شعراء مهمين في الحيرة كان مرتبطا بوجود وعي مبكر بقيمة اللغة والثقافة والفكر، واكتمل هذا الوعي لاحقاً بعد احتكاك رجالات ووجهاء الحيرة وتجار اللؤلؤ فيها بالثقافات المجاورة في بلاد الهند وفارس من خلال تنقلهم إليها مستخدمين السفن الكبيرة، ثم مع وصول المد القومي العروبي إلى المنطقة فترة حكم جمال عبدالناصر، امتلك أدباء الحيرة وشعراؤها مساحة خصبة للتعاطي مع الكتب والمجلات الصادرة والمطبوعة في مصر وبلاد الشام والعراق. ويوضح العبودي أن الحيرة تمتعت بوجود بناء قديم وفريد من نوعه، يتمثّل في مسجد ذي طابقين، حيث كان الطابق السفلي مخصصا لإقامة الصلوات وحفظ القرآن ودراسته في فترة الشتاء، بينما كان الطابق العلوي مخصصا لفترة الصيف، وأن طراز البناء هذا يدل على مظاهر رخاء صنعها وجهاء الحيرة، وترجمت معالم استقرارها وقوتها الاقتصادية.
إنه إذن الوهج الثقافي الذي يشير إليه العبودي، كطاقة معرفية جديدة انطلقت تحديداً في منطقة «الحيرة» لخصوصية تاريخية واجتماعية تمتعت بها، فامتد تأثير هذا الوهج إلى مناطق الدولة المختلفة بعد ذلك من خلال ثلاثة عناصر كبرى ساهمت في ترسيخ فكرة التطور المدني، وملاحقة مستجدّات الحداثة، وهذه العناصر تتمثل في إنشاء نظام التعليم المعاصر، وإنشاء الصحافة الحديثة، وبروز طبقة الشعراء الذين عززوا وطوروا ما دشنته فترة تجار اللؤلؤ أو «الطواويش»، كما يطلق عليهم في منطقة الخليج، وفي مقدمة هؤلاء الشعراء سالم بن علي العويس الذي جمعت أشعاره في ديوان شهير حمل عنوان: «نداء الخليج».
وتذكر بعض المصادر أن الحراك الثقافي الأهم في المكان كان مرتبطاً بتجمع أدبي مبكر حمل اسم «جماعة الحيرة الشعرية» وضمت شعراء كتبوا قصائدهم بالفصحى وحاولوا خلق مناخات شعرية متجاوزة للنمط القديم المرتبط بالمديح والهجاء والبكاء على الأطلال وغيرها من الأنماط الغابرة لبنية القصيدة في الزمن الجاهلي وفي الفترات الأولى من العصر الإسلامي، وارتكز هذا التجديد على جهود شاعرين مهمين في جماعة الحيرة الشعرية، وهما خلفان بن مصبح (1923 ـ 1946) والذي رحل مبكراً وهو في أوجّ شبابه وعطائه، وقبل أن يكمل مشروعه الشعري الواعد، والشاعر الثاني الذي كان له دور بارز في تأسيس الجماعة هو سلطان بن علي العويس (1925 ـ 2000)، حيث استند كلا الشاعرين على تصور مختلف للشعر، قوامه الربط بين الذات والواقع، وكذلك الجرأة التعبيرية وكسر القوالب التقليدية المحافظة، واستجلاب اللحظة الرومانسية الحارة والمتدفقة بأسلوب يتوفّر على عمق الصورة وسلاسة التعبير في آن واحد، وكان تأثير هذين الشاعرين مهما في ظهور جيل جديد من شعراء قصيدة التفعيلة في الإمارات، ومن بعدهم شعراء قصيدة النثر بالتوازي مع تأثير مدارس تجديدية في العواصم الثقافية العربية الكبرى وتحديدا في بغداد وبيروت.

تجار اللؤلؤ
من أشهر تجار اللؤلؤ أو «الطواويش» بالشارقة قديماً: ماجد العويس، وإبراهيم بن محمد المدفع، وعبدالرحمن بن حسن المدفع، وعبدالله النومان، ورحمة الشامسي، وعبيد بن عيسى النابوده، وحميد بن كامل، ومحمد المنّاعي، وعبدالله المطوّع، وخالد المنّاعي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©