الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غربة بينيّة

26 ديسمبر 2013 15:29
في الوقت الذي تكاد تخلو فيه الساحة النقدية من متابعة جادة ودؤوبة للأعمال الأدبية التي لا يكاد ينقطع تدفقها ولا ظهورها “رواية وقصة قصيرة وشعراً..” تتوجه أصابع الاتهام إلى النقاد، وممارسي النقد من المتخصصين باعتبارهم المسؤولين عن هذه الأزمة، ويُحمل الكثير من المبدعين، ومعهم قطاع واسع من قراء الأدب ومتذوقيه، النقاد والمشتغلين بالنقد تبعة هذه الفجوة الهائلة بين النصوص الإبداعية والنقد الذي من المفترض أن يصاحب هذه النصوص بإلقاء الضوء عليها وتحفيز القراء على قراءتها واكتشاف جمالياتها ومستوياتها العميقة، وممارسة الدور الأصيل للنقد باعتبار الناقد “مستشار القارئ”، ودليله ومرشده إلى الأعمال الجيدة التي تستحق منه البحث عنها وقراءتها. في المقابل، هناك من يرى أن نقادا كبارا، موجودون ويمارسون الكتابة النقدية، ويضطلعون بدورهم الأصيل في متابعة الأعمال الإبداعية والكشف عن جماليات هذه الأعمال، وإلقاء الضوء عليها، والتحريض على متعة تلقيها وإتاحتها لأكبر عدد من متذوقي الأدب ومتابعيه ومحبيه.. إلا أن أصحاب هذا الرأي “أقلية” لا تصمد أمام غالبية الذين يتبنون الرأي النقيض. النقد الستيني الكاتب والروائي الستيني بهاء طاهر، وصف الأزمة بأنها “طاحنة”، ولا بد من طرحها ومناقشتها والحديث عنها باستفاضة، قائلاً: “أنا أنتمي إلى جيل كان “النقد” فيه هو المعيار الحاسم الذي من خلاله تستطيع أن تعرف الجيد من الرديء، وتقوم بعملية متابعة دقيقة لكل شاردة وواردة في الوسط الثقافي والأدبي. وكان هناك نقاد كبار أعلام مثل محمد مندور، وشكري عياد، وعبدالقادر القط، وعلي الراعي ولويس عوض ورشاد رشدي”. ويضيف الروائي القدير أن أي كتاب جديد أو عمل أدبي كان يصدر كانت تتناوله تيارات فكرية مختلفة ومتصارعة، وكانت تحدث بينهم حوارات وجدل ونقاش حي ومثمر يصل إلى حد المعارك أحيانا، ولكنه كان يصب في مصلحة القارئ والمتلقي. “كانت هناك حياة في النقد” يقولها صاحب “واحة الغروب” متحسرا، أما الآن “فلا يوجد مثل هذا المناخ، ربما يكون عندك الآن نقاد أكثر ثقافة وربما أغزر معرفة وأكثر اطلاعًا على أحدث ما أنتجه الغرب من تيارات ومذاهب نقدية.. لكن ليس هناك هذا الجو الرائع والمناخ الثقافي الجميل الذي عشناه أنا وأبناء جيلي”. وعن أسباب هذه الأزمة، قال: إن اختفاء المنابر وتقلص المساحات المخصصة للنقد الأدبي من أبرز صور الأزمة ومظاهرها، وأضاف: “زمان كان هناك ملحق الأهرام الأدبي، صفحة كاملة مخصصة للنقد الأدبي، كان يتولاه ويشرف عليه ناقد وازن ومهم هو د. لويس عوض. أما الآن فأظن أن أكبر ناقد في أكبر جريدة، لا تتجاوز المساحة المخصصة له عموداً أو عمودين أو ربع صفحة على الأكثر يقول فيها كل ما يريد!”. وأردف صاحب “خالتي صفية والدير: “هناك “أحادية في التوجه”، فليس هناك تيارات مختلفة يمكن أن يحدث بينها جدل وحوار حي ومثمر يثري النقاش، خاصة أن النقد لا يمكن أن تكون له حياة ويكون له تأثير، ما لم يكن المجتمع نفسه حياً ونابضاً بتيارات وتوجهات متباينة ومختلفة”. وأكد أن العوامل والأسباب السابقة، هي نتيجة ومحصلة نهائية لفكرة أن “المجتمع نفسه اضمحلت اهتماماته الثقافية وتضاءلت إلى حد كبير”، والأعمال التي يقبل عليها الناس لها “أسماء غريبة خالص”، ولا تنتمي إلى ما نفهمه عن الأدب، وقال: “لن أقول أسماء طبعاً كي لا أعارك أحداً، لكنها أعمال ضحلة وخفيفة جداً، ولا يمكن القول: إن هذه النوعية من الكتابات والاهتمامات يمكن أن تخلق قارئاً أو ناقداً حقيقياً أو جاداً”، وختم بما يشبه الطلقة: هكذا أدب “أو ما يطلق عليه أدباً” يلزمه هكذا نقد، وهذه النوعية من الكتابة النقدية”. تطفل نقدي وأكد الناقد المصري والأكاديمي والمشرف السابق على المركز القومي المصري للترجمة، الدكتور خيري دومة، ضرورة الوعي بأن “وسائط الاتصال أصبحت اليوم أوسع بكثير عما كانت عليه الأزمنة السابقة، وهو ما يفتح أبوابًا واسعة لنشر الأعمال الإبداعية من ناحية، وللكتابة النقدية عن هذه الأعمال في الوقت نفسه”. وقال: “بقدر ما يكون هذا في مصلحة الإبداع والنقد على السواء، فإنه يتعب القارئ المتابع؛ لأنه لن يتمكن من متابعة آلاف الأعمال الإبداعية المنشورة سنويًّا، ثم متابعة ما يكتب عنها من نقد على اتساع العالم العربي”. ويرى دومة أنه “وسط كل الزحام يمكن أن تتوارى أصوات مبدعة ممتازة، وتتوارى معها أصوات ناقدة لا تقل تميزًا. كما أن هناك على الجانبين اليوم: الإبداع والنقد، متطفلين يلعبون دوراً مفسداً للمناخ، ومحبطاً لمن يريد أن يعمل أو يكتب”. ويشدد الناقد الأكاديمي على الوظيفة الاجتماعية للنقد، وأهمية أن يكون موجها لجمهور سواء كان متخصصا أم غير متخصص وأضاف: “تعلمت من أساتذتي الكبار في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، أن للنقد الأدبي وظائف اجتماعية تتجاوز التخصص الضيق، وأن النقاد الأعمق هم من يلعبون دورًا واضحًا لدى القراء المختصين وغير المختصين. وعبر سنين طوال كنت أتعلم من كل أساتذتي، وخصوصًا الراحل الكبير عبدالمحسن طه بدر، كيف أكتب كلامًا مفهومًا وسهلاً، بشرط أن يظل عميقًا ومؤثرًا وكاشفًا عن معرفة أكاديمية حقيقية. كان هذا شأن النقاد والكتاب الكبار مثل لويس عوض وعلي الراعي ويحيى حقي وشكري عياد وعبدالمحسن بدر ورجاء النقاش وفاروق عبدالقادر”. ويقول دومة: ابتداء من السبعينيات الباكرة بدأت المناهج النقدية الحديثة تغزو الجامعات العربية، وظهر لأول مرة النقد البنيوي والشكلانية الروسية، والتفكيكية، فيما عرف بنقد الحداثة وما بعدها، لتشهد هذه الفترة أقصى ازدهار لها مع صدور مجلة فصول النقدية العام 1980، التي دشنت أسماء نقاد الحداثة العرب، ممن تبنوا تطبيق هذه المناهج على النصوص، مثل كمال أبو ديب وجابر عصفور وصلاح فضل وصبري حافظ، وآخرين. ومرّ النقد الأدبي العربي “بفترة طويلة، لا أظنها انحسرت حتى الآن، تبارى فيها النقاد لإظهار قدرتهم على الصياغات الغامضة، المتحذلقة، المدعية، في كثير من الأحيان. ولعب بعض مقالات “فصول”، ومعها النقد القادم من المغرب العربي هذا الدور لوقت طويل، قبل أن يتغير طابع المجلة تدريجيا، إذ استشعرت خطورة القطيعة بينها وبين القراء المتخصصين، ناهيك عن عامة القراء”، ويلفت إلى أن كثير مما يقدم اليوم تحت ما يسمى “النقد الثقافي” لم يكن سوى “محاولات للخروج من مأزق النقد الأدبي بهذا المعنى الضيق الغامض”. وأكد أن نشاط دور النشر في مجال الإبداع الأدبي الجديد، أغرق الأسواق بتوجهات في الكتابة ساعدت على تطور الفن الأدبي على نحو مدهش، بينما كان النقد الأدبي الأكاديمي غارقًا في بحوثه التفصيلية، متوهمًا أنه يسعى للحصول على أدوات لتحليل هذه الكتابة الجديدة. والنتيجة أن الكتابة تطورت بينما لم يتطور النقد بما يكافئ ذلك. ويرى دومة أن الفارق بين “الناقد الحقيقي” و”الناقد المدعي” يكمن في القدرة على إخفاء المعارف التي حصلها، وتوظيفها الرهيف في مخاطبة القراء والوصول إلى عقولهم وقلوبهم، والوصول قبل ذلك إلى أسرار النصوص التي يتناولها، ورؤى المبدعين الذين يقدمهم. أما عن التهمة الموجهة للنقاد الأكاديميين بأنهم مسجونون خلف أسوار الجامعة، فيتحفظ دومة على هذا الاتهام قائلاً: “لا أعتقد أن النقد الأكاديمي بطبيعته منعزل ولا علاقة له بالواقع الأدبي”، مشيراً إلى أنه على العكس، فإن النقد الأكاديمي يمكن أن يكون مفيداً جداً، شريطة أن يتنازل عن “بعض غروره”، بما يسمح له بالاقتراب من أعمال الأدب الفعلية. المشكلة إذن، وكما يلخصها دومة، ليست في لغة النقد الغامضة المتعجرفة، وإنما فيمن يصوغون هذه اللغة متصورين أنهم بذلك يحققون المجد. وأفضل الكتب والمقالات النقدية التي أثرت فينا، بحسب دومة “هي الكتب التي فهمناها، ولو ببعض التعب، وظلت كلماتها وأفكارها تتردد في أذهاننا حين نأتي إلى قراءة الأدب والكتابة عنه. أما الكتب والمقالات التي نطير وراء كلماتها وصورها المتضاربة محاولين الفهم، فلا يبقى منها في الذاكرة شيء سوى العبث والعجرفة”. وقال: إن الساحة تخلو الآن من نقاد جماهيريين لهم وزنهم؟”. وربما نحتاج إلى بعض الوقت لكي يبقى في الأرض ما ينفع الناس، وهو قليل على كل حال وفي كل الأزمنة. لكنه يبدو الآن أقل مما مضى، ربما بسبب كثرة ما يكتب من إبداع ومن نقد. الشخص لا النص الكاتب الصحفي المعروف إبراهيم عيسى شن هجوما ضاريا على النقد والنقاد المعاصرين، بادئاً حديثه بأن “وجود قارئ مقبل على اقتناء رواية وقراءتها والتأثر بها موضوع ليس في مخيلة الناقد المعاصر من الأساس!”، مضيفاً: “كلما كان الناقد متحفظاً في أحكامه أو قارئاً ذا مزاج سوداوي كان من المحتفى بهم في الصفحات الثقافية العربية! وأنا أعلم جيداً العالم والمجتمع الذي أخاطبه وأتحدث عنه”. صاحب رواية “مولانا”، والكاتب الجماهيري والصحافي اللامع، شدد على أنه لا يوجد في الصحافة العربية الآن صفحات ثقافية مفجرة للإبداع بالمعنى الحقيقي، أو محرضة على الكتابة، أو موازية للإبداع العربي متابعة وكشفا ونقدا، ومكتشفة لمبدعين جدد موهوبين ومضيئة لأعمال كتاب أو روايات أو قصص أو أي شكل من أشكال الإبداع بشكل منتج ومولد لمعرفة جديدة متجددة. المشكلة في نظر عيسى تبدأ “من حالة الكسل العقلي المسيطرة على العالم العربي كله، والنقاد شأنهم شأن غيرهم من الفئات “مصابون بذات الداء”؛ موضحا أن “الكسل العقلي يدفع بالنقاد إلى الحكم على الأعمال التي يتناولونها، وخاصة الرواية، بالشخص وليس النص! ويفسر عيسى حكمه السابق بقوله “عندما يصدر أحدهم حكما على رواية ما بأنها “رواية جيدة” أو “ممتازة”، فإن هذا الحكم في الغالب لا يكون خاصا بالنص ذاته، قدر ما يكون منصبا على شخص كاتبه، الذي لا بد أن يكون معترفا به ومعمّدا من جماعة النقاد وجماعات المثقفين وجماعة الكتاب، ومن دون هذا الاعتراف لن يكون كاتبا ولن تلقى أعماله الاهتمام المطلوب!”. ولع بالمناهج الجاهزة ويقول الناقد د. حسين حمودة: “أتصور أن مهمة قراءة النصوص الأدبية ليست مهمةً سهلة على الإطلاق، وأتصور أيضاً أن مهمة قراءة النصوص جزء مما نفتقده في نقدنا بشكل عام. أضف إلى ذلك أنه كانت هناك حالة ولع محموم بالبحث عن نظريات نقدية مغلقة ومناهج جاهزة في الثقافة الغربية، وهذا الولع ذهب بالنقاد بعيداً عن مجال عملهم الحقيقي.. وهو البدء من التجربة الإبداعية ذاتها، والبدء مما تثيره من قضايا وتساؤلات، وطبعا البدء من النصوص الأدبية ذاتها، ومما تقترحه هذه النصوص من مداخل خاصة للمقاربات النقدية التي تتناولها”. وعما يسمى “أزمة النقد المعاصر”، يقول حمودة: “هناك أبعاد كثيرة لهذه الأزمة”، وإن كان لا يستريح لتوصيفها بالأزمة؛ مرجعا ذلك إلى “مشكلات حقيقية باتت تواجه تجربة النقد العربي، لعلها بدأت في نصف القرن الأخير، لكنها لم تصل إلى حد الأزمة”. “جذر هذه المشكلات يبدأ من عدم إشاعة الروح النقدية في حياتنا بوجه عام”، هكذا يرصد حمودة جذور المشكلة في بعدها الأعمق، رابطاً إياها بـ “اختيار المادة الأدبية في أغلب المقررات الدراسية في مراحل التعليم المختلفة، وتعليمنا بشكل عام أصبح يعتمد على التلقين لا على روح التفكير النقدي والمناقشة والاختلاف”. ويتفق حمودة مع من يرى أن من معالم هذه المشكلات التراجع إلى حد ما في مستوى الأبواب الثقافية والأدبية في كثير من الصحف والمجلات، “مع بعض الاستثناءات، والأهم، كما يضيف، “تراجع الاهتمام بالأدب في كثير من وسائل الإعلام الأكثر تأثيرا مثل التليفزيون بقنواته الأرضية والفضائية والفضائيات الخاصة، وبالطبع تراجع الاهتمام بالقراءة بوجه عام لحساب نوع جديد من التواصل مع يسمى “ثقافة الصورة”. من الصعب إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى طرح متكامل ورؤية كلية لأزمة باتت لازمة في حياتنا الأدبية المعاصرة، لكن الإشارة قد تفيد، وفتح الباب لإثارة النقاش حول الأزمة أصبح “فرض عين” على المتصلين بالحياة الثقافية والأدبية في العالم العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©