الإثنين 20 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عالم السينما.. شعراً

عالم السينما.. شعراً
28 ديسمبر 2011 22:56
بوسع الشعر أن يقرأ الوجود كمرآة مع شعراء قادرين بوعي على أن يغوصوا به إلى كل المناطق سواء تلك التي يخشاها البعض أو الأخرى التي يكتشفها الشاعر في سعيه الدائم نحو أمكنة جديدة، أو تلك التي تكررت صورتها ضمن أجيال شعرية مضت، والمجموعة الشعرية “ إلى السينما “ الصادرة عن دار الغاوون في بيروت للشاعرة لميس السعيدي تجربة شعرية تدخل بنا إلى عوالم السينما وأجوائها. استطاعت الشاعرة أن تجعل مدارها ومرتكزها هذه الرؤية الشعرية لكل التفاصيل التي تعنى بالسينما، السينما التي يذهب إليها الجميع على اختلاف هواياتهم وفرص قضاء أوقاتهم وثقافاتهم بل يذهب إليها حتى المتناقضين في أهوائهم وفي صفاتهم كما تعبر في مفتتح المجموعة : “إلى أين يذهب المذنبون؟ إلى السينما، إلى أين يذهب التائبون؟ إلى السينما ، إلى أين يذهب التعساء؟ إلى السينما ..” وهكذا يستمر الذاهبون إلى السينما في مدخل موفق لبداية النصوص في المجموعة. تكنيك وفي إشارة إلى ماهية السينما في وعي الشاعرة؛ فهي تمثل أحيانا هذا العالم بكل تناقضاته وكل تصوراته بل والجميع يشارك في الانتاج والجلوس والمشاهدة والتمثيل والملل والنوم أحيانا، كل هذا والقصيدة قادرة على ان تنسج لنا هذا التصور بتكنيك يعي مناطق تحركه واستخدامه للغة حيث لابد من توظيف كل مصطلح أو مفردة من شأنها أن تعضد هذا الفضاء وحيث لميس السعيدي تكتب قصيدة النثر مستفيدة من مناخها وآلياتها في المضي بنا نحو كل تلك العوالم ، السينما وما تشكله لدى النظارة من مشاعر مختلفة ومن أجواء قد لا تتكرر مرتين عن فلم واحد ، مثلما قد لا يتكرر جلوسك على كرسي واحد في قاعة السينما . تلتقط لميس وعن كثب كل تلك الصور ، التي تحيلها في معمل اللغة إلى نصوص بحاسة الانسانة والشاعرة التي تقترب من الأشياء وفقا لرؤيتها وشعورها ونظرتها المختلفة ، فهي لا تشاهد البطل فقط في لقطات الفلم بل تخترع أبطالها أيضا: “قبل بداية أي فلم ، حين يقتل الوقت البطل، يتمكن الجميع من دخول قاعة السينما، ليشاهد كل على حدة فيلمه، ليقتل كل على حدة الوقت”. وتوظف المصطلح أو العبارة السينمائية لنرى مدى انعكاسها على ذواتنا ومشاعرنا وما يدور في هذه الحياة حتى تستحيل العبارة وكأنها حكمة ما مرت علينا سابقا ولم ننتبه : “كل ما في الأمر أن هنالك خللا تقنيا قديما ، لم يتمكن بعد احد من إصلاحه”. وهذا ما تفعله أيضا طيلة هذه المجموعة الشعرية فالأبطال والمشاهدين والكراسي والكاميرا والألوان والصمت والشاشة وشباك التذاكر والممثل هم صيغة أخرى قد تكون نحن في لحظة ما ، لحظة من الحياة ترسم المفارقة جيدا: “عند الشباك القديم نفسه، يعلق صورته، ليدخل وحيدا إلى قاعة السينما، لم يعد حاجة إلى اسمه”. هذا ما جاء في نص “أفيش شاهدة قبر تاريخ واحد”، وهي صورة مماثلة لكثير من المنتظرين، كثير من المتأهبين لبدء الفيلم، كثير ممن فاتهم الموعد. وفي نص “مكياج” الذي هو صورة أخرى لشيء قد يمر في الحياة ، لوجهات النظر المختلفة في الحوارات ، للعمق والسطحية وكيف يتبادلان الأدوار بيننا، تقول: “يخرج كل متفرج من قاعة السينما وقد شاهد فيلما مختلفا ، مشاهد مختلفة ، زوايا مختلفة ، وممثلين مختلفين ، على الشاشة القديمة نفسها”. وكيف تملي علينا الحياة شروطها أحيانا كما يتضح في نص “ زيُّ الممثل “ ملابسه التي تفرض عليه برغم أنه قد يؤدي يوما ما دورا عاريا : “لكن دوره لم يكن بحاجة إلى أكثر من جلده العاري ، جلده المفقود في مخازن قديمة”. مفارقات وهكذا تمضي بنا السينما ولميس نحو المتماثلات والمفارقات دون أن يكون هناك أي إشارة إلى هذا المعنى؛ فهو متروك للقارئ يقرره وقتما يشاء أو يستمر في قراءته كاختزال مجرد للسينما وعوالمها بعيدا عن أي تصور مماثل آخر من الحياة ، كما في نص مدهش تحت عنوان “ موسيقى تصويرية “ حيث اقتراب الشاعرة من مناطق قد لا يستشعرها أحد من الحضور في هذا الممثل الذي يبذل كل طاقته مع موسيقى قد لا تنساق وفق حباله الصوتية: “يبحث عن اللحن الذي أدخره للنهاية “ و “لم يختنق ولم يحشرج ، الغبار العالق بحنجرته ، الغبار الذي ادخره ، دغدغه كثيرا ، حين صار المشهد جادا ..” . ومرورا بقصائد مثل: “زووم” و “الكليشيه” و”الكادر” و”الديكور” و”الكاميرا التي تساقطت عليها قطرات المطر” و”السيناريو” و”البلاتوه” و”الكومبارس” و”الإضاءة” وظفت الشاعرة كل ما يمكن في معارفنا عن السينما وعالمها بل ومضت بنا في نظرة مختلفة بحس لا يخلو من النقد ولا يخلو أيضا من رسم الخط المتوازي مع الحياة في قصائد مثل : “رومانس” و”مشهد الأفلام الرديئة”. واشتغلت في تجربتها على كتابة تجريبية أيضا مستفيدة من هذه المفاهيم وبأدوات تخصها؛ فلم تتوقف عند حدود كتابة القصيدة ضمن أي حدود معينة بل كان ثمة آفاق جديدة سنلحظها في نصوص “جينيريك” و “سيرة ذاتية لتمثيل دور النقطة”، حيث اشتغال على الدلالة وانفتاحها والفكرة والصورة معا وعلى قيم الحداثة الشعرية في خصائصها الفنية، وتوظيف المعطى بأساليب فنية جديدة متكئة على أدوات السرد في كثير من الأحيان لتهدينا مع مجموعتها الشعرية مفاتيح للمضي نحو قراءة ممتعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©