الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لغز الأحمديّة

لغز الأحمديّة
1 ابريل 2009 22:59
كان هذا اللّغز ينام في ذهن أمّ محمود شهورا، ثمّ يستيقظ على موعد جديد للسّفر، يحصل عليه ابنها الوحيد محمود، الذي فرغ من دراسة الفيزياء في العام الدراسي 2006 ـ ·2007 يستيقظ مثل كابوس مرعب، يدكّ كتفيها المتعبتين، ويلقي على حدقتيها الغائرتين غلالة سوداء، تتبارى مع بثور الشيخوخة، وتجاعيد الهمّ التي يعلن فيها الدّهر سيطرته على مصير الإنسان· انّه طالب يافع من مواليد الأحمديّة ،1985 ومن طلاب كليّة العلوم في الجامعة اللبنانيّة، له تسعة وعشرون عاما تكفيه لكي يفهم اللعبة على أرض لبنان ثم الكرة الأرضيّة· فامّا سفر مع شهادة الفيزياء الى كندا، وامّا اندحار وتمزّق على الطّرقات الوعرة بين الأحمديّة والمدارس المحيطة في البقاع الغربي، وقضاء حاصبيا ـ مرجعيون، المتعطّشة إلى المتعاقدين بالسّاعة· هكذا انشطر قلبه بين أمه التي تقترب بسرعة من الخامسة والستين، وحلمه الذي يقترب من ساعة الحقيقة، بتوفيق غير مسبوق بالنسبة إلى طالب رقيق الحال، غض الاهاب· في التاسعة صباحا من الثاني من أيّار ،2008 محمود في طابور طويل على باب السفارة الكندية، على بعد ربع ساعة فقط من القبض على موافقة الجامعة الكندية في مونتريال، ليكون طالب دراسات عليا حسب الاستمارة التي ملأها، وسيكون مرتاحا بعدها من عذاب المشاوير، ورتابة السّير المضني بين البقاع الغربيّ والعاصمة· أمامه عشرة منتظرين، دقيقة ونصف لكل واحد، خمس عشرة دقيقة للجميع فيصبح طالبا أجنبيّا في كندا بالقوّة ـ كما يقول الفلاسفة ـ ثمّ بالفعل عندما تعطى له التّأشيرة· نعم موافقة مع تأشيرة، ''سلام عليك يا كندا، يا بلاد الثّلج والجليد، يا أرض الزّمهرير، ومنتجع الطّامحين، يحدّك من الشّمال القطب المتجمّد الشمالي، ومن الجنوب الولايات المتّحدة، ومن الشرق المحيط الأطلسيّ، ومن الغرب آلاسكا والمحيط الهادئ· البلد الشّاسع الذي يطلب بشرا لأرض، بينما الدّنيا أراض ضاقت بأهلها تطردهم عنوة، وتطرح أجسادهم وعقولهم للبيع في الإنترنيت، وعلى أعمدة الصحافة وفي أعالي البحار···'' السابع من أيّار الساعة السادسة عصرا، إقلاع الطائرة من بيروت إلى لندن فمونتريال، على الخطوط الجوية الكندية· هذا الخبر يسر محمود لكنه يقع كالصاعقة على والدته· ـ ماذا تفعل يا محمود· ولم أنت منهمك إلى هذه الدرجة بتجميع الثياب؟ ـ اليوم السفر ياماما أنسيت؟ ـ لا··· ـ أين الحقيبة الكبيرة التي كان يستعملها والدي في أسفاره؟ أستطيع أن أضع فيها كلّ ثيابي الشتوية وأبقي لحقيبة اليد الأشياء الخفيفة والثمينة· يمضي محمود في خطته الحاسمة، كأنه اتخذ قرارا لا رجعة عنه· من غرفة نومه إلى المكتبة، ومن المكتبة الى غرفة الاستقبال، يجمع ويفرق، يفرغ ما في يديه، ويحمل من جديد، أشياء وأشياء، لها أول وليس لها آخر، تتراكم في الحقيبة المنفوخة على غير نظام، الا الضغط باليدين الذي جعلها كرة ضخمة من الأقمشة· وفيما يحتضن محمود الأمتعة، ويرنو إلى المرآة والخشب والجدران، رنوّ الوداع الأخير، يصافح الشقوق التي تشبه تجاعيد أمه، ويمرّر أصابعه على طفح الرطوبة هنا وهناك، الذي يذكره بغرف السجون، والملاجئ والأقبية، إلى أن يستقر أمام محفظته الجلدية الصغيرة، وقد توشحت بالسواد وكادت تغص بعشرة آلاف دولار أميركي دين على محمود للبنك العربي في صيدا· يحتسبها على مضض، وكيف سيسددها في مدة سنتين وهو طالب جديد وغريب في كندا؟ وماذا سيقول لكفيله اذا ضاقت به السبل وتأخر عن الدفع؟ تتجاذبه الاحتمالات سلبا وإيجابا كطقس خريفي على شواطئ المتوسط، فيتخيّل أنّه عاد من كندا إلى لبنان في العام القادم لزيارة والدته وفي المطار ألقي القبض عليه، وسيق إلى السجن قبل أن تراه أم محمود على بابها في الأحمديّة! هنا الطّمّة الكبرى ـ كما قال محمود ـ''لكن من ساعة إلى ساعة فرج، ومن غير الجائز التفكير بالأمور على المستوى من التطيّر والتشاؤم، واللّه المدبّر''· أخذت الصورة القاتمة تغيم شيئا فشيئا، فشعر كأنّ جبلا أنزل عن ظهره عندما بدأ بتصفح الدليل السياحي الكندي باللغتين الفرنسية والانجليزية· ـ أنظر: هنا مونتريال، وهذا شارع الجامعة، والمباني المجاورة! ما أجمل أن تكون بين أناس يحترمون النّظام والإنسان، لا أزمة سير، ولا تعنيف على الإشارات، ولا مطال في المعاملات!··· كلّه على ما يرام في بلاد الصقيع إلا خاطر أم محمود، والمصداقية مع كافل القرض الذي لا نريد أن نخسره· ويتحرر محمود بصعوبة من مونولوجه الداخلي مناديا أمّه التي استلقت على أريكة قديمة في فناء الدار، قبالة التلفاز، وقد بلّلت ثيابها ووجنتيها بجداول من دموع الحسرة والوداع، بينما التهبت أحشاؤها حرقة وامتعاضا، ولسان حالها يقول: الى أين سأذهب ومن يملأ دنياي بعدك يا محمود؟ ـ كندا أعز عليك من قلب الأم؟ لهفي على من ربيته برموش العين ينخطف مني غصبا· صوت من الداخل يقول: ـ أمي، صارت الثانية عشرة· مطلوب أن أكون في المطار بعد ساعتين· وفي اللحظة نفسها صوت من مذيع الأخبار على الشاشة الملونة يقول: أدت الأحداث الأمنية التي وقعت صباح اليوم في العاصمة بيروت إلى إقفال الطرق المؤدية إلى المطار حتى إشعار آخر· أجابت أم محمود بصوت قطعه الفرح، فبكت من كل جوارحها وصلت ركعتي شكر لله سبحانه وتعالى·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©