الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوظيفة عادت شاغرة

الوظيفة عادت شاغرة
3 فبراير 2011 19:44
(القاهرة) - فجأة وبلا مقدمات، حاصرتني الأحزان والوحدة ووجدتني مسؤولة عن نفسي وعن تركة أبي وشركته الكبيرة، فقد رحل عن الدنيا بعد فترة مرض قصيرة، كنت تائهة وقد اختل لديّ التوازن النفسي ولا أعرف من أين أبداً ولا كيف أتصرف. إنني في الخامسة والعشرين لكن ليست لديه تجارب في الحياة، ولا دراية لي طوال هذه السنين إلا الدراسة وأحياناً الخروج إلى النادي بصحبة أبي وأمي، ولا أبالغ إذا قلت إنني أجهل من دابة في تدبير أي أمر مهما كان صغيراً. أنا الابنة الوحيدة لأب ثري، تخرج في كلية الهندسة وكما قال لي إنه كان من أسرة فقيرة، وكان وحيد أبويه، وكافح في شبابه واعتمد على نفسه وتحمل كل مسؤولياته وتعليمه وزواجه وأنهى دراسته الجامعية ورفض أن يكتفي بالوظيفة الحكومية بسبب عائدها الذي لا يلبي رغباته ولا يحقق أحلامه، فطموحاته كبيرة ولا يعرف الاستكانة، عقد العزم على تغيير واقعه وعدم الاستسلام له، فهو لا يؤمن بما يسمى مسايرة الظروف كنت أرى الإصرار في عينيه بعدما بدأت أدرك ما حولي، وعندما كنت أناقشه في أي أمر، انطلق إلى التجارة ودائماً يقول إن التجارة شطارة، وتسعة أعشار الرزق في التجارة، ورغم أنه بلا رأس مال كانت له طرق يتصرف من خلالها، وهي طرق مشروعة، فمثلاً يحصل على بضائع ويستمهل التجار في ثمنها إلى أن يتصرف فيها، ثم يسدد ويعاود الكَره واتسعت أعماله، حتى وضع نواة شركة صغيرة، كانت تنمو بين يديه وأمام عينيه ولا يبخل عليها بالرعاية والجهد. أما أمي فقد كانت حاصلة على مؤهل متوسط وظروفها الأسرية لا تختلف كثيراً عن ظروف أبي وهو في بدايات حياته، تعرف عليها أثناء دراسته، كل منهما وجد في الآخر نصفه الثاني، كان بينهما توافق واتفاق، نشأت في ظله، في أمان واستقرار. لم أعش المعاناة مع أبي وأمي، وإنما جئت إلى الدنيا بعد أن أصبحت ظروفهما جيدة، ويتمتعان برغد العيش، فلم يرتبطا إلا بعد أن تأكدا من أنهما تخلصا من الفقر وودعاه، وعندما كانا يقصان عليّ رحلة كفاح كل منهما منفردة، ثم كفاحهما معاً أشعر كأنني أمام رواية خيالية، لا قصة واقعية، أقف أمامها بإعجاب وإجلال وإكبار، خاصة أن أبي وأمي لم تتملكهما شهوة المال. لم تفكر أمي في العمل، كرست حياتها وجهدها ووقتها لأبي ولي ولبيتها، تتفانى في توفير كل ما يؤدي لراحتنا، حتى أنني وأنا طفلة لم أشعر أنني بحاجة إلى اللعب مع الصغار، لأن أمي كانت تقوم بذلك خير قيام بالإضافة إلى الدمى والألعاب الكثيرة التي كانت تضيق بها غرفتي، وحرص أبي على قضاء يوم الإجازة معنا في مكان مختلف خارج المنزل، وقد كان ذلك سبباً في عدم وجود صديقات لي، حتى في مرحلة الصبا والمراهقة، كانت أمي تعاملني بما يناسب المرحلة السنية، كأنها طفلة كانت تكبر معي. أبي دائماً يؤكد لي أنه يفعل كل ما يفعله من أجلي فأنا كل ما له في الدنيا، لا يريد أن أعاني مثله ومثل أمي، استشعر فيه كثيراً الخوف عليّ، أحس بصدقه حتى أشفق عليه مما هو فيه. لا أبالغ إذا قلت إننا أسرة صغيرة نموذجية وهكذا شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى ألا ينجب أبي وأمي غيري، واكتفيا بي، ولم يحاولا الذهاب إلى طبيب أو استكشاف السبب حتى وهما يرغبان في ذلك. كان لأبي أسلوبه في تربيتي، فبجانب أنه لا يريد أن يحرمني من أي شيء ويستجيب لكل مطالبي ورغباتي فإنه في نفس الوقت لا يلبيها بسرعة، أحياناً أجده يتقاعس متعمداً، وفهمت أنه يفعل ذلك حتى أعرف أن هذه الأشياء لا تأتي بسهولة لكي أحافظ عليها. جاءت الصدمة الأولى عندما توفيت أمي، لا أستطيع أن أصف شعوري وحال يبعد رحيلها، رغم أنني أنهيت دراستي الجامعية وتخرجت فقد شعرت باليتم والمرارة والوحدة وقسوتها، فقد فقدت سندي وصديقتي وأمي وحبيبتي واحتواني أبي وبذل كل ما في وسعه رغم آلامه لكي يخرجني من هذه الأزمة، أحياناً أرى دموعه تنساب من عينيه رغماً عنه، لا يستطيع المقاومة، يترحم عليها ويعدد مميزاتها، يردد حكايته معها وكيف عانت وضحت ووقفت بجانبه، وكم تحملت وتفانت وأنكرت ذاتها. والمصائب لا تأتي فرادى، فبعدها بعدة أشهر فقط لحق بها أبي، وهنا كانت الصدمة الثانية والأكبر، لأنني في الأولى وجدت من يواسيني ويقف بجانبي، أما الآن فإنني وحيدة، لم أتوقع الحال التي أنا فيها، اعتقدت أنني وأبي وأمي سنعيش معاً ونموت معا، لم يدر بخلدي أنني يمكن أن أفقدهما أو أياً منهما. وأنا في خضم أحزاني متشحة بالسواد، اضطررت للخروج إلى شركة أبي لمعرفة ما يدور فيها، والمشكلة أنني لم أكن أعرف عنها إلا القشور من المعلومات، ولا أدري كيف كان يديرها أو يتعامل مع من فيها ووجدت أيدي حانية وأناساً مخلصين، مدوا يد العون ووقفوا بجانبي، وكلهم من الموظفين والعمال في الشركة إلى أن بدأت أفهم الأوضاع وأديرها بشكل كامل، ووجدت في انغماسي في العمل عوناً على الهموم والأحزان والوحدة. كان قسم الحسابات بحاجة إلى محاسب ليتولى هذه المهمة، فأعلنت في الصحف عن تلك الوظيفة الشاغرة، وتقدم شبان كثيرون اخترت من بينهم واحداً توسمت فيه الخير ووجدت فيه الإصرار والطموح والهمة والنشاط اللذين كنت أراهما في أبي، ولم تخب نظرتي فيه، تفانى في عمله، يقضي ساعات طويلة يدقق ويمحص، كان دقيقاً حريصاً، وهذا ما جعلني أتقرب منه، جاد في تعاملاته ألتقي به كثيراً، لمراجعة الحسابات والموقف المالي، يعتز بنفسه وبشخصيته وبرجولته، فلو تصادف واضطررنا لتناول الطعام أثناء العمل يأبى تماماً أن يدعني أدفع ثمنه ويقول: «إنه الرجل» ويجب ألا أجرح شعوره، هذا كله بجانب أمانته، خلق بيننا كثيراً من التفاهم ثم الإعجاب المتبادل، فيه حنان ورقة وكبرياء الآن أنا في الخامسة والعشرين وهو يقاربني في العمر، وأحتاج لمن يؤنس وحدتي ويحمل عني هذه المسؤوليات، ويشاركني حياتي، لا يخفى عني الطامعون في الثروة حتى لو كانوا أثرياء، غير أنهم لم يستطيعوا خداعي بوهم الحب، استطعت أن أجعله يتخلص من إحساسه بأنه يعمل عندي، نجحت في إذابة الفارق المادي وتمت الخطبة. وفي البداية أراد أن نتزوج في شقته الصغيرة في الحي الشعبي، من باب رجولته التي يعزف عليها باستمرار وبصعوبة بالغة تمكنت من إقناعه بأن نتزوج في شقتي التي تركها لي أبي في حي راق، وشهدت طفولتي وذكرياتي وشبابي، وتم زواجنا، ولم يعكر صفو سعادتي إلا أنني لا أجد أمي بجانبي في هذا اليوم، ولا أبي بين الحضور ليضع يده في يد زوجي والمأذون عند عقد القران، كنت في أشد الاحتياج إليهما في تلك اللحظات التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر. زوجي لم يخيب ظنوني، وكان كما توقعت وتمنيت، ملأ فراغ حياتي، حمل عني هموم وتبعات الشركة، وأنا من جانبي قدمت له توكيلاً عاماً ليتصرف فيها وفي أموالي كيفما يشاء، وحتى لا يشعر أنه زوج الست، ويتصرف بلا حرج. عادت السعادة إليَّ بعد أن فقدتها عدة سنوات وكأن التاريخ يعيد نفسه، ودار الزمان دورته كنت أقوم مع زوجي، كما كانت أمي تفعل مع أبي، وبدأ أول جنين يتحرك في أحشائي، فغمرتني الفرحة إلى أن وضعت طفلة جميلة، قالوا إنها تشبهني تماماً، وعندما أخرجت صوري القديمة التي كنت أحتفظ بها وجدتها بالفعل كذلك، لا فرق مطلقاً، ومنحت زوجي وابنتي كل جهدي ووقتي إلى أن بلغت الخامسة من عمرها، اخترت لها أفضل مدرسة، ومن أجلها فقط تعلمت قيادة السيارات واشتريت سيارة فاخرة لأقوم بتوصيلها إلى المدرسة وإحضارها بنفسي، فإنني لا أتحمل أن أتركها مع أي شخص وأريد أن أكون قريبة منها، وفي نفس الوقت أجد متعة وأنا أقوم بذلك، بعدما عادت الحياة إلى الدمي الكثيرة التي كنت أحتفظ بها منذ طفولتي وأحافظ عليها، فاستعدت معها طفولتي مرة أخرى. ويبدو أن الحياة لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة، ولا تستقر على حال، فقد بدأ زوجي يتغير، ويتأخر كثيراً عن العودة إلى المنزل، وجدت فيه تحولاً عني وعن ابنته، وانشغالاً بشيء لا أعرفه، وعندما سألته عن ذلك أجابني بالنفي، لكنني لم أسترح لجوابه ولم أطمئن إليه، حتى جاءني إخطار من البنك بأنه سحب مبلغاً كبيراً جداً لم نعتد على سحب مثله من قبل، وعندما واجهته اعترف لكنه لم يقدم سبباً لتصرفه، لعبت الظنون برأسي، وأحاطت بي المخاوف لأول مرة. اضطررت لتحري الأمر، ويا لهول ما اكتشفت، إنه يؤسس شركة منافسة لشركتي التي تركتها له كلها، ورغم أنه يفعل ذلك بأموالي فإنني سمعت منه رداً عجيباً بأنه يريد أن تكون له شخصيته المستقلة وأعماله الخاصة به، ثارت ثائرتي، فانقطع عن المجيء إلى البيت، وهنا كانت المفاجأة الأخرى أنه اشترى شقة وسجلها باسمه من أموالي أيضاً ومن دون أن أدري وأنه توجه للإقامة فيها، ومن خلال بعض الأوفياء من العاملين في الشركة علمت أن السبب في كل هذه التصرفات أن بعض النمامين قذفوا السموم في أذنيه واستغلوا شخصيته واستنكروا كيفية استمراره في العمل «عندي» وهو زوجي، يجب أن يكون هو مالك كل شيء والمتصرف فيه، ومن دون أن يناقشني في الأمر تصرف منساقاً وراء أهوائه. فقدت الأمان، توقعت أن يقدم مزيداً من الغدر وهو يسير كالطائرة لا يتوقف، فألغيت التوكيل لأوقف نزيف أموالي التي يسيطر عليها، وهنا أيضاً صدق ظني، فقد ثارت ثائرته، واتهمني بأنني أشكك في ذمته، وأختلق معي مشاجرة وخرج تاركاً البيت غاضباً رغم أنه جاء للعتاب واللوم، وهدد بالانفصال، لكن خوفي على ابنتي وحرص على أن تنشأ بيننا جعلني لا أستجيب لرغبته في تدمير هذه الأسرة الصغيرة، لكنه اشترط أن أعيد إليه التوكيل. المخاوف تسيطر عليَّ وأخشى أن يحصل على أموالي كلها هذه المرة وأصبح صفر اليدين، فمن طمع في القليل لا يتورع عن الكثير، وأمام إصراره وموقفه المتعنت ورفضه العودة إلا بالتوكيل أو الطلاق، خلعته وخرج بما حصل عليه غير خاسر. الآن أعلنت أن وظيفته كمحاسب في الشركة أصبحت شاغرة ويمكن لأي متخصص أن يؤديها، ولكن حياتي الزوجية ستظل شاغرة، فلن أقبل برجل آخر يخدعني، أو يقاسم ابنتي في وقتي وجهدي ورعايتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©