الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الكتاب والأسماء و··العيون

عن الكتاب والأسماء و··العيون
16 مارس 2008 04:06
بدأت الحكاية ذات صباح موشى بالألق الفيروزي الجميل، صباح يكاد لفرط عذوبته أن يختصر الأصبحة كلها، ذلك أنه شهد انبثاق إحدى روائع السيدة فيروز، من كلمات الشاعر الأنيق جوزف حرب: ''أسامينا·· شو تعبو أهالينا تلاقوها·· وشو افتكروا فينا''، غنتها السيدة تاركة لنا، نحن المصابين بلوثة الإصغاء المباركة الى الصوت الفردوسي الحميم، أن ندخل في متاهة السؤال عن أسمائنا التي التصقت بنا، وأضحت بالنسبة الينا ظلالاً مورقة بالدلالة، قبل أن تقرر إخراجنا من مدارها برشاقة اللحظة المدهشة، التي أقامت معها صلة ذات طابع سرمدي: ''الأسامي كلام·· شو خص الكلام؟!! عينينا هني أسامينا!!'' هكذا انتهت الحكاية، وأخذت معها دلالة الأسماء، وتعب الأهل، والتوق المضني لاختصار الكائن الى علامة تنوب عنه· لا يسعك، وأنت تجول في أروقة معرض الكتاب، باحثاً عن ملامحك التائهة في مهب السنين، ومصغياً الى صخب الحروف المتربص بكل إيماءة من ناظريك، إلا أن تستعيد الرائعة الفيروزية، على وقع نظراتك المتجهة نحو ما يحيط بك من كائنات ورقية مغناج، فيما هي تستنفر أسماءها سعياً وراء إيقاعك في مهب الغواية، تقرأ العناوين محاولاً سبر أغوار هذا الكون الموازي الفائق الروعة، وقد صاغه معماريوه كلمة كلمة، ثم كان عليهم أن يختاروا لكل عمارة إبداعية اسماً يختزلها، يلخص كل الجهد والسهر، وطقوس الاحتراق الجليل والنشوة المبدعة، وإذ تضبط نفسك مستسلماً لمتعة الارتحال في رحاب التعريف المعنون، تصدح السيدة من أعماقك مجدداً: ''الاسامي كلام··'' فتعيدك الى حيث كنت، وتهمس متلعثما: لكن·· يا سيدة الصحو الجميل، في البدء كان الكلام، والأغلب انه سيبقى بعد أن تتعب العيون من التحديق في عمق الفاجعة، التي تواطأنا على تسميتها حياة، وتذهب الى اغفاءتها الدائمة، مجدداً يخرج الصوت الأسطوري بثقة من احتضن الروعة حتى لم يترك متسعاً لمزيد: ''عينينا هني اسامينا!''· فلا يعود أمامك سوى الغوص عميقاً، في عيون الكتب باحثاً عن الحقيقي من مسمياتها، وعن الحميم من مكنوناتها، متجاوزاً ما تشي به العناوين من اقتراحات مراوغة· يقول امبرتو ايكو في كتابه ''العلامة''، إن الانسان أطلق الاسماء على الاشياء من حوله كمقدمة لبسط نفوذه عليها، وامتلاكها، فيما يذهب محمود درويش عبر سفره البهي: ''في حضرة الغياب''، الى استعادة صلته البدائية بالحروف: ''كل ما تكتبه يداك يصير ملك يديك''· هكذا تتحول الكتابة الى استحواذ على المشاع اللغوي، ويصبح الكاتب مستعمراً للكلمات، يصوغ بواسطتها مملكة الوهم العذب، التي يطيب للقارئ أن يخضع لسلطتها، هكذا صدقنا زمنا أن الكتاب يقرأ من عنوانه، وهكذا صار الأدباء والشعراء، بعضهم على الأدق، عناوين لمحطات ابداعية مضيئة في ليل الكتاب الطويل، وهكذا أمكن للأسماء أحيانا أن تدخل في سجال مع مسمياتها، فكان علينا أن نميز بين عنتر الفارس الأسود الشجاع الذي أتقن الكر، وأنقذ شرف القبيلة من الضياع على أيدي خصومها، وبين عنترة الشاعر الرهيف كحد سيف تمنى تقبيله، لأنه استدعى ثغر عبلى المتبسم الى مخيلته المشحونة بالحب والموت، في اللحظة الحرجة تراجع نداء الدم الصاخب أمام همس العشق الخجول، وانتصر الشاعر على الفارس، فعلت العيون فعلها، فلمعت السيوف وتوهجت بالضوء، وبرق الثغر الانثوي المعشوق، حينها ود الشاعر عناقا مع ذلك الموت الرائع، ما دام قابلا للإحالة الى الحبيبة النائية، بل يمكن القول، وفقاً للقانون الذي صاغه محمود درويش، أن عنترة فعل ذلك حقاً، طالما أنه وفق الى صياغة الحدث شعراً· تسرح مع لعبة الأسماء بحثا عن خاتمة لا وجود لها: ترى ما هو الاسم الذي منحه أهل الشنفرى له، قبل أن يستمد اسمه الخاص من نزعة التصعلك الكامنة في ذاته؟ وكيف أمكن للأخطل أن ينسينا ما كان ينادي به قبل أن يصير ما هو حقا؟ وقبل أن يمنحه بشارة الخوري صفة الكبر قانعاً بأن يكون، هو نفسه، أخطلا، ولو صغيرا؟ ومن يستطيع تذكر أحمد الجعفي الذي أقصاه المتنبي الى هاوية النسيان والتلاشي؟ ومن هو الجاحظ في تذكرة الميلاد؟ وكيف أمكن ان يكون ابن الرومي شخصا واحدا؟ وكم بذل أبوالعلاء من الجهد في ليله القاتم حتى أمكنه اختصار المعرة في شخصه؟ ثم تتنبه فجأة الى أنه، وعلى مقربة منك، يقبع أدونيس باسمه المستفز، وعناوين كتبه التائقة الى نفوذ فائق، من مهيار الدمشقي وما يستبطنه من احالة الى تاريخ باذخ، وصولا الى ''الكتاب'' الذي يشي بمحاولة الشاعر إقفال باب اللغة، ذلك أن الكتاب قد كتب وقضي الأمر· مروراً بـ''وراق يبيع الكتب الى النجوم''، و''أول الجسم آخر البحر''، وغيره كثير· لكنك في غمرة الإبحار نحو الاسماء ودلالاتها تتنبه الى أن بعض العناوين تشبه المسميات الوظيفية، خالية من عناصر التشويق والإيحاء، ربما هي تعكس كبر نفس أصحابها، عزوفا من جانبهم عن استجداء الإيحاء الاولي: ''د· زيفاغو''، ''آنا كارنينا''، ''غادة الكاميليا''، ''بائعة الخبز''، ''الجريمة والعقاب''، ''الأم''، ''الحرب والسلام''، ''زوربا''، ''مدام بوفاري''، ''أحدب نوتردام''· أسماء تبدو كما لو أنها تتفادى الاتكاء على الدلالة، وتحرص على الظهور بمظهر عبء لا بد منه، لعل ما خالج أسماء أصحابها من كبر حقيقي قد أعفاهم من تنكب مشقة التسمية الدالة، فكان أن اكتفوا بقليل يتيح التمييز المبدئي فقط· هذا بالنسبة للاسماء ، أما العيون ··فحديث آخر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©