الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ذكريات نازك الملائكة -1

25 يوليو 2007 04:31
كنا في سنة ،1966 وكنت فتى في مفتتح سنوات عمره بالعمل الأكاديمي في جامعة القاهرة، وذهبت لسبب لا أذكره إلي مقابلة أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي، عليها رحمة الله، ربما لشأن يتعلق بأحد الموضوعات العلمية التي كنت أريد التسجيل بها لدرجة الماستير· ولم تكن علاقتي بسهير القلماوي علاقة التلميذ بأستاذته التي كانت في ذروة شهرتها وتألقها الثقافي علي امتداد العالم العربي في ذلك الوقت، وإنما كانت - في الوقت نفسه - علاقة الابن بأمه الروحية التي ترعاه، وتقود خطاه في مجالات العلم والحياة على السواء· ولذلك أسميت ابنتي الأولي باسم ''سهير'' آملا أن تكون صورة أخرى لأستاذتي، وبالفعل مضت سهير الصغيرة في طريق سميَّتها الكبيرة إلى أن حصلت على درجة الدكتوراه في المسرح الإسباني، وأصبحت مختصة جامعية فيه، تحمل درجة ''مدرس'' التي كنت أرجو أن يمتد بها العمر فأراها بدرجة ''أستاذ'' وفي مكانة سميَّتها، أمي الروحية التي أدين لها بالكثير، ولكن الموت سبق أمنياتي واختطفها منّي، فحملتها إلى المدافن نفسها التي أسهمت في حمل جثمان نازك الملائكة إليها قبل أيام معدودة، فبكيت ابنتي، وترحمت على نازك التي رافقتها إلى مثواها الكريم، ودعوت الله لابنتي ولها ولأستاذتي سهير القلماوي على السواء · وأكاد أذكر، الآن، المشهد بتفاصيله الدقيقة، كنت جالسا أمام مكتب أستاذتي التي كانت تجلس وراءه، متطلعة إليّ، تحدثني عن موضوعات في النقد الأدبي (أظنها: كانت عن جماليات التكرار في الشعر العربي القديم)· وفجأة، توقفت أستاذتي عن الكلام، وانتفضت فرحة، واقفة في لهفة المحب، صارخة بصوت الترحيب بصديق حميم: أهلا يا نازك· أخيرا، رأيتك· وتطلعت من مجلسي إلى هذه الضيفة التي أخذت انتباه أستاذتي كله· وظلّتا تتحدثان واقفتين، دون جلوس لدقائق قليلة، إلى أن انتبهت أستاذتي، فدعتها إلى الجلوس، وجلست معها أمامي، وفي مواجهتي· وبالطبع ابتسمت أستاذتي لدهشة الضيفة من عدم معرفة هذا الشاب الغريب، فقالت لها: هذا جابر عصفور تلميذي الذي أتوقع منه الكثير وابني الذي أراقبه وأرعاه، ثم التفتت لي باسمة سائلة: هل تعرف يا جابر الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة أم لا تعرفها؟ وبالطبع، قلت لها: ومن الذي لا يعرف الشاعرة الكبيرة؟! إني أعرف الدواوين التي أصدرتها: ''عاشقة الليل''، و''شظايا ورماد''، و''قرارة الموجة''، كما أعرف كتابها ''قضايا الشعر المعاصر'' وكتابها الثاني عن شعر علي محمود طه، وهو أجمل ما قرأت عن هذا الشاعر الذي أحبه· ولم تتركني أستاذتي عند ذلك، بل بادرتني بالسؤال: ولكن ألم تقرأ شعرها؟ فقلت: بلي، وقد فتنتني قصائدها الليلية التي ذكّرتني بشعر جبران في ديوانها الأول ''عاشقة الليل''، ولا أزال أذكر أسطر قصيدتها التي أحببتها كل الحب عن ''الخيط المشدود في شجرة السرو''· وكان وجه نازك يضيء بالفرحة وأنا أقول هذا الكلام الذي لا أزال أذكره، ولا أزال (بالمناسبة) على حبي لقصائدها الليلية التي تمضي في الطريق الذي فتحه جبران للشعراء في عشق الليل، بكل دلالات الليل وسحر هدوئه، وجاذبية سكونه، ولانهائية سواده الرحيم· والتفتت نازك إلى سهير القلماوي، قائلة لها: معك حق في تبني هذا الشاب، فاندفعت بلساني الذي لا أستطيع أن ألجمه إلى اليوم، قائلا: ولكنك شابة· (ولم أكمل: وجميلة أيضا) فعاودتها الابتسامة الصافية التي أنارت وجهها المشرب بالحمرة· ونقلت أستاذتي الحديث إلى مجرى آخر، خاص بقضايا المرأة التي كانت كلتاهما تهتم بها، وهموم الوطن العربي التي كانت نازك قد أصدرت عنها كتابا· وظللت طوال الجلسة صامتا، تاركا لهما حرية الكلام، غير مشارك لهما أو مقاطعا، فقد اكتفيت بالتطلع غير المباشر إلي وجه نازك الملائكة الجميل والصبوح الذي كان مشربا بلون وردي يبين عن العافية وعرامة الشباب واندفاعه الذي يكاد يضج من أي إسار· ولم أشبع من تأمل هذا الوجه الصبوح الباسم الذي ظللت أذكره مترعا يتوهج بفرحة الحياة والنهم إلى المعرفة· ولا أظن أنها كانت جاوزت الأربعين إلا بعام أو عامين أو حتى ثلاثة على الأكثر، ولكن ما كانت نضارة الوجه تبين إلا عن أربعين عاما على الأكثر من صباحة الوجه ونضارة البسمة· وللأسف، لم تطل الجلسة إلى ما كنت أرجوه كي أشبع من تأمل ملامح هذا الوجه الجاذب كالمغناطيس، ولا من العين التي كانت تشع بذكاء نادر، ولا من الوجنتين اللتين لمحت فيهما نوعا من حدة الإرادة ومضاء العزيمة· ومضت نازك الملائكة، وقبلت وجنتي أستاذتي التي بادلتها التحية الحميمة، ولم تنس أن تصافحني في تحفظ من عرف إنسانا للمرة الأولى · هكذا، عرفت نازك للمرة الأولى· ولعل هذه المعرفة التي دفعتني إلى معاودة قراءة كتابها الجميل عن علي محمود طه الذي لم يتفوق عليه كتاب آخر إلى اليوم في المكانة والقيمة· رحمها الله فقد ماتت وحيدة، بعد أن فقدت زوجها الذي ظل يرعاها طوال سنوات مرضها الطويل التي أوصلتها إلى قرارة القرار من ظلمة الليل التي تحوّلت إلى ظلمة القبر، ورحم الله موتانا جميعا، فهم أعزاء لا يزالون يعيشون بيننا، في أعينن ذكراهم كملائكة رحلوا كي يأتوا بالغد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©