الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما وراء النهر الصغير

ما وراء النهر الصغير
5 يونيو 2008 01:17
انحنى النهر الصغير مثل هلال حول رقعة الأرض التي قام عليها كوخ لافول· بين الجدول والكوخ يمتدّ حقل مهجور كبير، حيث كانت ترعى الماشية·· وعبر الغابات التي امتدت إلى الخلف داخل مناطق مجهولة رسمت المرأة طوقاً وهمياً· ولم تخطُ أبعد من هذا الطوق أبداً، كان هذا فقط هو مظهر جنونها الوحيد· إنها امرأة سوداء كبيرة وضخمة، اجتازت الخامسة والثلاثين، اسمها الحقيقي جاكولاين، ولكن كلّ شخص في المزرعة دعاها بـ ''لافول''، لأنها في طفولتها ارتعبت، وبالأدق، ''فقدت رشدها'' ولم تسترده أبداً· كان ذلك عندما وقعت هناك صدامات وإطلاق نار فجائي، طيلة نهار كامل في الغابات· كان المساء قد اقترب عندما ترنّح بيتيت ماتريه، مسوداً بالبارود، ومضرجاً بالدم داخل كوخ والدة جاكولاين، فقد أغلق مطاردوه الطريق أمامه، وصعق هذا المشهد وعيها الصبياني· بقيت وحيدة في كوخها المنعزل، لأن بقية أبناء الحيّ مضوا منذ تحركت خلف بصيرتها وإدراكها· كانت لديها قدرة جسدية تفوق الرجال، جعلت قطعة أرضها التي زرعتها بالقطن والذرة والتبغ تبدو أفضل من قطعهم، غير أنه لم تكن لديها أية معرفة بعالم ما وراء النهر صوناً لرغبَتها المتخيّلة الناشئة عن عصابها· الناس في بيليزيم كبروا، وقد اعتادوا عليها وعلى طريقتها ولم يعلموا عنها شيئاً، حتى انهم لم يتساءلوا، عندما ماتت ''السيدة العجوز''، عن سبب عدم عبور لافول النهر الصغير، إذ وقفت على ضفته، تنتحب وتنوح· إنّ بيتيت ماتريه الآن مالك بيليزيم، رجلٌ في منتصف العمر، وله عائلة ذات ابنتين جميلتين حوله، وولد صغير أحبّته لافول كما لو أنه ابنها·· دعته تشيري، وهكذا فعل كل شخص آخر بعدها·· ولم تكن أي واحدة من الفتاتين تعني لها ما كان يعنيه تشيري أبداً· كانتا، متفرقتين ومجمعتين تحبّان أن تكونا معها، وأن تستمعا إلى قصصها المدهشة عن الأشياء التي تحدث دائماً ما وراء النهر الصغير· ولكن أيّاً منهما لم تمسّد يدها السوداء مثلما فعل تشيري· ولم ترح يديها على رقبتها، ولم تسقط نائمة بين ذراعيها كما اعتاد أن يفعل· من أجل تشيري فعلت الآن أشياء كثيرة، منذ أن جاء هذا الفخور الذي يملك بندقية، وحلق شعره الأسود· في ذلك الصيف أعطى تشيري لا فول خصلتين سوداوين ثبتتا بعقدة من وشاح أحمر· وجرى الماء ضحلاً جداً في النهر الصغير، حتى إن الأطفال الصغار في ''بيليزيم'' كانوا قادرين على عبوره على الأقدام، كانت لا فول آسفة عندما ذهبوا· لأنها أحبت هؤلاء الرفاق الصامتين كثيراً، وأحبت أن تشعر أنهم كانوا هناك، وأن تستمع إليهم وهم يرعون في ''مملكتها'' الخاصة· كانت بعد ظهيرة الأحد عندما خلت الحقول· واندفع الرجال أفواجاً إلى القرى المجاورة ليقوموا بتسوقهم الأسبوعي، وانشغلت النساء بأمر أزواجهن·· كانت لافول تفعل مثل الأخريات، ثم ترتق بعدئذ حفنة ملابسها القليلة وتغسلها وتنظف منزلها وتصنع خبزها· وفي أثناء هذا العمل الأخير لم تنس تشيري قط· لقد زينت هذا اليوم ثوبه بكثير من التزيينات البديعة، وهكذا نادت عليه بابتهاج: تشيري·· تشيري·· عندما رأت الولد يمشي عبر الحقول القديمة، والشارة العسكرية تتوهج على كتفه· ولم يكن تشيري يحتاج إلى دعوة لكي يزورها، لأنه كان يأتي إليها مباشرة، وتنتفخ كل جيوبه باللوز والزبيب والبرتقال الذي خُصص لها، من الغداء اللذيذ جداً الذي وضع في ذلك اليوم في منزل والده· كان ذا وجه مشرق طفولي في العاشرة من عمره، وعندما أفرغ جيوبه لمست لا فول خده الأحمر المستدير· ومسحت يدها المتسخة بمئزرها ومسّدت شعره·· ثم راقبته، وهو يمسك كعكته بيده، ويعبر سلسلة حقل القطن خلف كوخها، ويختفى داخل الغابة· كان متباهياً بالأشياء التي سيفعلها ببندقيته خارجاً هناك· ''أتظنين أنهم يحصلون على أيائل كثيرة في الغابة لافول؟'' سأل بمكر صياد خبير· ''أبداً·· أبداً؟'' ضحكت المرأة· لا تنتظر أيّ أيّل يا تشيري· إنه كبير جداً، ولكنك إن أحضرت إلى لا فول سنجاباً جيداً سميناً من أجل غدائها ليوم غد، فسوف تكون قانعة· ''إن سنجاباً واحداً ليس وجبة كافية، سوف أحضر لك أكثر من واحد يا لا فول''· كان متباهياً بغرور عندما ذهب في طريقه· عندما سمعت المرأة، بعد ساعة، شائعة عن ولد يحمل بندقية قد اقترب من نهاية الغابة لم تكن قد فكرت بعد بشأن تلك الصرخة الحادة الموجعة التي لم يتبعها صوت· سحبت ذارعيها من حوض الغسيل المليء بالصابون، حيث كانتا مغطستين، وجففتهما بمئزرها، وبأسرع ما تستطيع أطرافها المرتجفة أن تحتملها، انطلقت إلى الرقعة التي جاءت منها الشائعة المشؤومة· كانت خائفة·· وهناك وجدت تشيري مصاباً وممدداً على الأرض، وبندقيته إلى جانبه، أنّ بصوت مثير للشفقة: ''سأموت يا لافول·· سأموت·· يا لافول، سأمضي···'' لا·· لا·· صرخت بتصميم، بينما كانت تجثو قربه: ''ضع ذراعك حول رقبتي لافول يا تشيري· ذلك أمر بسيط، لن يكون شيئاً ذا بال''· حملته بذراعيها القوتين· حمل تشيري فوهة بندقيته إلى الأسفل، فزلت قدمه، هو لا يعرف كيف·· عرف فقط أنه تلقى رصاصة في مكان ما من ساقه، وفكّر في أن نهايته أصبحت قريبة· وها هو ذا يئن ويبكي من الألم والرعب، بينما رأسه ملقى على كتف المرأة· ''أوه، لافول! لافول! إن الجرح بليغ· وأنا لا أستطيع أن أوقفه، لافول''· ''لا تبك يا صغيري'' قالت المرأة، مهدئة من روعه، بينما كانت تذرع الأرض بخطواتها· وصلت إلى الحقل المهجور، وحالما اجتازته بحملها الغالي، استمرت تنظر بقلق من جانب إلى آخر، وسقط عليها خوف رهيب، خوف من عالم ما وراء النهر الصغير، خوف مَرَضي مجنون خضعت لسيطرته منذ الطفولة· وصرخت طلباً للمساعدة، كما لو أن حياتها تتوقف على ذلك: ''بيتيت ماتريه! بيتيت ماتريه! أريد شاحنة في هذه الحال·· النجدة النجدة''· لم يستجب أي صوت· دموع تشيري الساخنة كانت تلذع رقبتها، لقد نادت كل شخص وكل كائن في المكان، دون أن تتلقى أيّ جواب· صرخت وانتحبت، ولكن صوتها بقي على أية حال غير مسموع· تفحّصت لافول ما حولها بنظرة يائسة أخيرة·· سيطر عليها رعب مطلق، فاحتضنت الولد قريباً من صدرها حيث تستطيع أن تسمع نبضات قلبه التي تنبض بخفوت· بعدئذ ركضت فجأة، وهي تغلق عينيها، هابطة ضفة النهر الصغير الضحلة، ولم تتوقف حتى تسلّقت الشاطئ المقابل· وقفت هناك راجفة·· لحظة، حالما فتحت عينيها· ثم غامرت بالمشي عبر الأشجار· وغمغمت باستمرار: ''إلهي الطيب، انظر بعين الرحمة إلى لاول، يا إلهي· انظر إليّ بعين الرحمة· أصبحت الغريزة تقودها· وعندما امتدّ الطريق واضحاً وممهداً أمامها· أغلقت عينيها ثانية بشدة في مواجهة مشهد العالم المجهول الرهيب· لدى اقترابها من الحي· أطلقت صرخة رعب مطلق·· ''لافول'' صرخت في صوت حاد عالي الطبقة، ''لافول·· اعبري النهر الصغير''· بسرعة اجتازت الصرخة نحو الأسفل حد الأكواخ· ''هناك·· لافول·· عبرت النهر الصغير'' الأطفال، الكبار في السن من الرجال والنساء، الشبان، وهم يحملون الأطفال على أذرعهم· اندفعوا أفواجاً إلى الأبواب والنوافذ ليروا هذا المشهد الذي يسبب الرعب· أغلبهم ارتجف بفزع خرافي من هذا الإنذار، صرخ بعضهم: إنها تحمل تشيري· استشعرت بمزيد من الجرأة تسري في أوصالها، وتصل إلى كعبي قدميها، لتسقط خلفها، من ثمَّ، متحوّلة إلى رعب شديد عندما التفتت بوجهها المحتقن نحوهم· كانت عيناها قد احتقنتا بالدم، ولعابها قد تجمع في رغوة بيضاء حول شفتيها السوداوين· ركض أحد الأشخاص متقدما نحوها، إلى حيث يجلس بيتيت ماتريه مع عائلته وضيوفه على الشرفة· ''بيتيت ماتريه· لافول عبرت النهر الصغير، انظر إليها، انظر إليها هناك تحمل تشيري''· كان هذا الإعلان الصارخ هو أول ما تلقوه حول قدوم المرأة· إنها الآن قريبة، لقد مشت بخطوات طويلة، كانت العيون تحدّق نحوها بيأس، وهي تتنفّس بتثاقل، كثور متعب· عند أسفل الدرج الذي لم تستطع أن تصعده، ألقت الطفل بين ذراعي والده· وعندها، فإن العالم الذي بدا أحمر فجأة للافول تحول إلى أسود يشبه ذلك اليوم الذي شاهدت فيه البارود والدم· ترنحت للحظة، وقبل أن تمتد إليها يد المساعدة سقطت على الأرض بتثاقل· عندما استعادت لافول وعيها كانت في بيتها مرة ثانية، في كوخها، وفوق فراشها·· أشعة القمر المتدفقة عبر الباب والنوافذ المفتوحة أعطتها الضوء الذي تحتاجه أم عجوز سوداء تستند إلى الطاولة، وهي تعد شراباً من منقوع الأعشاب الطبية· كان الوقت متأخراً جداً· الآحرون الذين أتوا ووجدوا أن الغيبوبة ما تزال تلازمها، ذهبوا مرة ثانية، بيتيت ماتريه كان هناك ومعه الطبيب بونفيلز الذي قال أن لا فول من المحتمل أن تموت· ولكن الموت تجاوزها·· كان الصوت واضحاً جداً وثابتاً عندما قالت لتاني ليزيت وهي تخمّر نقيعها في الزاوية'' ''إذا أعطيتني شراباً منقوعاً جيداً أظن أنني سأنام مرة أخرى''· ونامت نوماً عميقاً جداً، حتى إن العجوز ليزيت خرجت من عندها دون أن تشعر بتأنيب الضمير·· غادرتها بهدوء لتدبّ عائدة إلى كوخها في الحي الجديد· أوقظت الملامسة الأولى للصباح الرمادي المعتدل لافول، فنهضت بهدوء، كما لو أنه لم تكن هناك عاصفة هزتها، وهددت وجودها أمس· ارتدت ثوبها القطني الأزرق الجديد ومئزرها الأبيض، وتذكرت أنه يوم الأحد، وعندها صنعت لنفسها كأساً من القهوة القوية، وشربته بانتشاء، وتمشّت عبر الحقل الأليف إلى نهاية النهر الصغير مرة ثانية· لم تقف هناك كما كانت تفعل من قبل، ولكنها اجتازته بخطى ثابتة طويلة· عندما شقت طريقها عبر الأغصان المقطوعة لأشجار القطن التي انحنت نحو الضفة المقابلة وجدت نفسها على حدود الحقل حيث القطن الأبيض يتفطر حزناً، ويكلله الندى، ويومض في الأرض مثل طبق فضي مثلج في الفجر المبكّر· أخذت لافول نفساً طويلاً عميقاً، وتمشّت بهدوء وعلى غير هدى مثل شخص يعرف بثبات كيف يمشي· الأكواخ التي أرسلت بالأمس ضجة متواصلة لتلاحقها كانت هادئة الآن· لا أحد حتى الآن خارج الفراش في بيليزيم باستثناء الطيور التي تتقافز على أطراف الحقول، فقد كانت مستيقظة، تغني ابتهالاتها· عندما أتت لا فول إلى البساط الأخضر الواسع الذي يلتفّ بأناقة حول المنزل، تحرّكت ببطء وابتهاج فوق المرج الربيعي الذي بدا فاتناً تحت وطء قدميها· توقفت لتتساءل: من أين فاح هذا العبير الذي كان يغير على أحاسيسها، مصحوباً بذكريات تعود إلى زمن بعيد· كانوا هناك، انسلّوا صاعدين إليها من ألف بنفسجة زرقاء تنبثق خارج المساكب الخضراء الخصبة··· كانوا هناك·· يستحمون تحت الأجراس الكبيرة اللامعة لزهرة الماغنوليا التي تمتد بعيداً فوق رأسها، وتحت عرائش الياسمين التي تحيط بها· هناك نشأوا، أيضاً، بلا عدد، إلى اليمين واليسار امتدت أشجار النخيل في منحنى واسع جميل، تبدو كلها شبيهة بالسحر تحت بريق الندى المتلألئ· عندها سارت لافول ببطء وحذر خطوات عديدة قادتها صعوداً نحو الشرفة، ثم استدارت لتنظر خلفها إلى المرتقى الخطر الذي اجتازته، ثم نظرت إلى مشهد النهر، منحنياً مثل قوس فضي أسفل بيليزيم· فسيطر الابتهاج على روحها· طرقت لا فول على الباب القريب بقوة· وبعد قليل فتحت والدة تشيري الباب·· بسرعة وبمهارة أظهرت الدهشة التي شعرت بها لدى رؤيتها لا فول: ''أوه لا فول·· أهذه أنت؟ ما زال الوقت مبكراً''· ''نعم يا سيدتي، أتيت لأطمئن على طفلي الصغير تشيري''· ''إنه يشعر أنه أفضل· شكراً لك· الدكتور بونفيلز يقول: لن يكون هناك شيء خطير، إنه ينام الآن· هل تعودين عندما يستيقظ''· ''لا يا مدام·· سأنتظر ريثما يستيقظ تشيري''· ثم اتخذت لا فول لنفسها مجلساً على الدرجة العليا للشرفة· نظرة من الإعجاب والاطمئنان العميق زحفت على وجهها عندما شاهدت للمرة الأولى الشمس وهي تشرق فوق العالم الجديد الجميل ما وراء النهر الصغير· ü كيت تشوبين (1850 ـ 1904) كاتبة أميركية، تعدّ رائدة الكتابة النسائية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أميركا· نشرت مجموعتين قصصيتين هما ''شعب البايو'' Bayoufolk عام 1884 و''ليلة في أكادي'' eNight in Acadie عام ،1897 كما نشرت روايتين هما ''المذْنب'' At fault عام 1890 و''اليقظة'' The Awakening عام ،1899 ويتفق النقاد المعاصرون على أن تشوبين برعت في تصوير أدقّ المشاعر الإنسانية في جميع الموضوعات التي تناولتها·
المصدر: كيت تشوبين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©