الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمعة الفيروز: الحياة جد قصيرة

جمعة الفيروز: الحياة جد قصيرة
12 يونيو 2008 01:49
في عام 1955 ولد في رأس الخيمة طفل لا يشبه غيره، كان حالماً فتنقل بين الفنون وخيالاتها التي لم تعطه بستانه في الحياة، عاش اللامألوف كله وغرد في هواء طلق، هواء الشعر والقصة والكتابات التأملية· جمعة الفيروز دافئ حد الاحتراق ومعتزل حد التصوف له عوالم لم يطرقها غيره، دخل ذاكرة قريته ''سدروه'' عبر بوابة الإبداع، فأثر في من عاش معه، امتلك رؤى متعددة فلسفها وشعرنها فتأملها فاقتنع بأنها الأصح في هذا العالم المميت· كان يهتم بالأصدقاء فيحتفي بإبداعهم وربما يبثهم حبه شعراً· لقد كتب همومه الخاصة وعاش حياته بكل تجلياتها، عاش الشعر والموسيقى فأحب ان تعزف أنامله على أوتار الحياة، أصدر ''ذاهل عبر الفكرة'' في أواخر حياته 2000 فغادر مع ذهوله عام 2001 في 19 فبراير منه· كان مرحاً حد الموت وقاصاً يتأمل حكايات الناس· ترك ''مسافة انت العشق الأولى'' فطبع حكاياته الصغيرة وخلف ''ذاهل عبر الفكرة'' مليئة بأسراره وطفولته والجنة التي يحلم بها· ولم ير ''علياء وهموم سالم البحار'' فلربما ذهب وهو يحلم بأن يخبره يوماً ما من يأتي إليه، لماذا نحتفي بالمبدعين بعد الموت؟ ربما عندما تريد أن تحتفي بهم في حياتهم لا بد أن تتقبل كل ما يقال· جمعة الفيروز فكرة في ذاكرة وسفر بين حروف الأصدقاء وضوء لاهث ننظر له من بعيد عبر قصائده المليئة بعشق الحياة التي لم يعشقها ولم يعجب بها· في شهادتها عن زوجها الراحل جمعة الفيروز تقول (أم سالم) التي عاشت معه ما يوازي ربع قرن، وكانت الأقرب إلى تفاصيل حياته اليومية وطقوسه الإبداعية إن زوجها الراحل ''كان مهجوساً بفكرة الكتابة، حيث كان يدون التفاصيل الصغيرة والمسودات الأولى في أي وقت وفي أي مكان، وكان الراحل يتوقف أحياناً في سيارته كي يدون فكرة لمعت في ذهنه، وكان أحياناً يكتب على علب السجائر أو المحارم الورقية حتى لا تتبخر المعاني ولا تتطاير العبارات الافتتاحية لمشاريعه القصصية والشعرية والروائية''· وتضيف أم سالم: ''كنا داخل المنزل نهيئ كل الأجواء المناسبة للراحل عند شروعه في الكتابة أو عند اشتغاله على العود لاستجلاب ألحان جديدة لأصدقائه المطربين، فهذه اللحظات التي تداهمه أثناء عمله الإبداعي كانت ذات مقدمات طقسية واضحة، وبالتالي كنا ننسحب أنا والأطفال بهدوء من غرفته التي كان يسميها (الصومعة) كي يتواصل مع هيامه الشخصي والحميمي مع الكتابة والتلحين، وعند انتهائه من الكتابة أو وضع اللحن النهائي كان يختبر انطباعاتنا، ويستشيرنا ثم يخرج فرحاً كي يعرض أعماله على أصدقائه المقربين أمثال أحمد العسم وعبدالعزيز جاسم نجيب الشامسي ومطر رمضان وهيثم الخواجة وناصر بوعفرا وطارش خميس، وغيرهم· وتدعيماً لرغبتها في استمرار حضور جمعة الفيروز في الذاكرة الثقافية المحلية تتمنى (أم سالم) أن تقوم الجهات الثقافية بتبني فكرة إنشاء متحف شخصي داخل منزل الراحل، يضم مخطوطاته الشعرية والقصصية والروائية، ومدونات ألحانه، وكتبه وآلاته الموسيقية ومقتنياته الخاصة الأخرى، وذلك كي يتحول هذا المتحف إلى مزار لمحبي جمعة الفيروز خصوصاً، وللمهتمين بالثقافة الفنية والشعبية في الإمارات عموماً· كما تتمنى (أم سالم) من الجهات الثقافية أن تتكفل بإعادة طباعة كتبه ومخطوطاته، خصوصاً أن بعض هذه الكتب لم يعد متوفراً، وبعضها الآخر لم يتم توزيعه بالشكل المناسب في مكتبات الدوائر الثقافية والكليات والمعارض التخصصية· وعن انتقال حساسية الفن والمؤثرات الإبداعية إلى أبنائه تقول (أم سالم): ''ترك لي الراحل خمسة أبناء- توفي أحدهم أثناء حياته في حادث سير- والمتبقون هم سالم وخليفة وأسماء وفاطمة، وكلهم يملكون طاقات إبداعية ومواهب أدبية، ولابد أن والدهم الراحل استطاع أن ينقل لهم هذه العدوى الجميلة من حب الكتابة والموسيقى والقراءة، وغيرها من الممارسات والطقوس التي اعتادوها من والدهم، خصوصاً أنه كان يجالسهم لفترات طويلة ويمنحهم حرية إبداء آرائهم دون أن يصادر هذه الآراء أو يلغيها''· مبدع حقيقي وأصيل وفي شهادته عن رفيق دربه في مشوار التحديات التي جابهت الأغنية الشعبية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي يقول الفنان الإماراتي المعروف إبراهيم الماس: ''كان الراحل يحمل كل مواصفات المثقف والفنان الشغوف والمهموم بإيصال إبداعاته لأكبر شريحة من المهتمين، وكانت صحبته تتوفر على الكثير من الحميمية والاحترام وحسن المعشر، وهو صاحب فضل كبير في تشجيعي أثناء دخولي المجال الفني، خصوصا بعد اتجاهي للتلحين في الثمانينات من القرن الماضي، فالفيروز كان دارساً للموسيقى والمقامات وكانت له خبرة يسبقني بها في هذا المجال، وفي أرشيف إذاعة أبوظبي الكثير من الأغاني الشعبية القديمة التي ساهم جمعة الفيروز في إثرائها من ناحية الكلمة واللحن والتوزيع، وكان للراحل حلم كبير لم يتحقق بسبب نقص الإمكانات المادية والإدارية، وهو إنشاء فرقة موسيقية إماراتية مختصة بالفنون والأهازيج البحرية''· وعن أشهر ما قدمه الفيروز للساحة الفنية في الثمانينات يقول الماس: ''هي أغنية (أحلى الأيام)، التي أداها المطرب سالم عثمان''، ويتمنى الماس أن يتم تكريم جمعة الفيروز من خلال إحياء مشاريعه التي لم تتنفس ولم تر النور في حياته بسبب المعاناة الكبيرة التي عاشها فنانو الجيل السابق· نظرة مختلفة أما طارش خميس الهاشمي فيقول: ''إن العلاقة التي تجمعني مع الراحل جمعة الفيروز هي علاقة صداقة وقرابة عائلية في نفس الوقت، ولكن علاقة الصداقة هي التي أثمرت عن كل هذا التواصل الروحي والتناغم الإنساني معه، ويتمتع جمعة الفيروز بجاذبية داخلية تجعل الآخرين يميلون لصحبته والاستئناس بالجلوس معه، فهو صاحب نكتة ويتمتع بأخلاقيات عالية وحس مرهف وحديث لا ينقصه التشويق والدفء وسرد المعلومات المعمقة في شؤون الحياة والثقافة''· ويضيف الهاشمي: ''أذكر- وأنا في طفولتي- أن الراحل تلمس واكتشف حبي وتعلقي بالموسيقى، وتفاجأت في أحد الأيام وهو يهديني عوداً كي أترجم شغفي بالموسيقى من خلال هذه الآلة الساحرة التي أعتبرها أجمل وأغلى الهدايا التي وصلتني، وهي تدل على مدى العطف والحس المرهف الذي كان يتمتع به الراحل، وكانت هذه بداية لعلاقة فنية موسيقية طويلة، تعلمت من خلالها وعلى يدي الراحل أصول النوتة والمقامات الموسيقية وأساليب التلحين التي ساعدتني بعد ذلك في مهنتي عندما كنت طالباً في فرقة الموسيقى بشرطة رأس الخيمة، إلى أن أصبحت قائداً لهذه الفرقة بعد ذلك''· ويقول الهاشمي: ''قال لي الفيروز قبل وفاته بفترة قصيرة: (على المرء أن يترك بصمته الإبداعية المميزة في هذا الوجود، وأن يكثف حضوره المختلف بين الآخرين، ذلك أن الحياة جد قصيرة يا صديقي)، وما زال صدى هذه الكلمات يرن في ذهني حتى اليوم''· ضمير الإنسان المثقف يقول الشاعر مطر رمضان: ''من يقرأْ مجموعة (هموم سالم البحار) لجمعة الفيروز يكتشفْ جزءاً كبيراً من السيرة الذاتية للراحل والتي تمزقت على أكثر من جهة وصعيد، فهناك المشاكل التي صادفته في العمل وفي الحياة العائلية والصداقات المزيفة، وهي التي دمرت كيانه الداخلي، وأحبطت الكثير من مشاريعه الحالمة والمهمة، والتي لو ظهرت للنور لأحدثت فارقاً كبيراً وقوياً ونوعياً في مسيرته الإبداعية، وفي المشهد الثقافي الإماراتي بشكل عام''· ويضيف رمضان: ''تعود علاقتي بالمبدع الراحل إلى العام 1972 عندما جمعنا فريج (سدروه) في رأس الخيمة وهو فريج ضم الكثير من الشعراء والفنانين والأدباء الذين ظهروا في الساحة بعد ذلك، وكانت هناك حوارات عميقة وكتابات مشتركة جمعتني به، وفي تلك الفترة الذهبية كان إحساسنا الفني نقياً ومتخلصاً من الشوائب والشروخ التي طاردتنا عندما كبرنا وجرفتنا الظروف المنهكة للحياة وتكاليف العيش''· ويذكر رمضان أن والد جمعة الفيروز كان يمزق بعض الكتب التي يقرأها ابنه لأنها كانت مقلقة للسائد الاجتماعي، ولكن هذه الصدامات المتعددة مع الواقع جعلت الفيروز أقوى وأكثر إصراراً على المضي في طريق الإبداع الشائك والمدهش في ذات الوقت''· ويتمنى رمضان أن تولي الجهات الرسمية اهتماماً أكبر بالنتاجات غير المطبوعة للشاعر، خصوصاً أنه كتب الكثير من القصائد العامية بلغة مختلفة عن السائد، وكان حسه الإبداعي العالي واضحاً في هذه القصائد، ولكن للأسف لم يقرأها سوى عدد قليل من أصدقائه المقربين· ذاهل عبر الفكرة يقول الشاعر هاشم المعلم في شهادته عن الراحل: ''حين أكتب عن جمعة الفيروز تسبقني كلماته وابتسامته التي تحمل الأسى والألم معاً، هكذا عاش الفيروز لامعاً في عزلته وجميلاً في وحدته ومغبوناً في إنسانيته، رحل منتصراً بكبرياء شاعر، لم يداهن ولم يتزلف، ولم يذهب الى الموت مفلساً أو عارياً، بل ذهب منتصراً على الظلام وحقد وأنانية الجلادين، ذهب مثل ذكرى غيمة تغسل شوارع وأزقة جلفار، أو مثل نسمة ريح تداعب الأشجار والأغصان، هناك في (سدروه) حيث مسقط رأسه، وحيث الأصدقاء الجميلون يضعون الورود على قبره، أصدقاء ذاهلون من فكرة موته أمثال: عبدالعزيز جاسم، احمد الكدري، احمد العسم، عبدالله السبب، احمد سالمين، احمد منصور، ناصر بوعفراء····· وآخرون ربما لا يسعفني المقام أن أذكرهم جميعاً، لقد ترك لنا الفيروز إرثاً خالداً وكنزاً لم يكتشف أو يعلن عنه بعد، فهو مثل بيت يطفو على بحار العالم بنوافذ متعددة، وهو السهم الذي انطلق في أبدية هذا الليل، لنستدل من خلاله على الدرب ونجتاز النهر بسلام كما نجتاز ذواتنا وأعماقنا الضحلة''· جمعة الفيروز هذا الزمار الذي أخرج الشعر والقصة القصيرة والموسيقى والرسم من كهوف ومن جبال ووديان رأس الخيمة، وبلمسة فنان مبدع استطاع أن يحول ذلك المخزون والموروث الأدبي إلى أشياء ثمينة تعيش معنا، تنبض وتتنفس إلى الأبد· جمعه الفيروز، هذا الكائن الشفاف في تعامله وإنسانيته، والذي يشبه الى حد ما البيت بكل تفاصيله وأركانه المطرزة بحكايات وأساطير تطل على عوالم وفضاءات الوعي والفن والحس والإدراك، ومن هذه الوثبة (الأفلاطونية) يدرك قيمة الزفرة وقيمة الصهيل، وكيف يتحول إلى نجمة مضيئة أو إلى كوكب يستوعب حجم هذا الإنسان المشتعل بالحب والتسامح، ومن هذا الانطلاق الواعي يطلق للعالم كلمات ويترجم ألحاناً في متناول اليد ولكن بحس فنان خلاق، يعمل بهدوء مبالغ لدرجة الغياب''· استطاع الفيروز أن يلون ذاته، وأعماقه وأنفاسه البيضاء، إيماناً منه بنداءات وإشارات كانت تصل وتطفو على سطح روحه مثل زهرة الزيزفون، وهو فارس هذه الجولات وتلك النداءات· ماذا لو أقيم كرنفال يليق بمكانة وإبداع جمعه الفيروز، كرنفال يعرض أعماله الفنية والحانة ويقرأ أعماله القصصية وقصائده المنشورة وتلك التي لم تنشر إلى الآن، وذلك من خلال (يوم ثقافي) يخصص سنويا لذكرى رحيله؟!''· ألفة وحنين وألم يقول الفنان سالم أبوعفراء: ''جمعة الفيروز ذلك الإنسان المبدع، تربطني به علاقة قربى ودم مشترك، جمعة الفيروز ذلك الإنسان الذي تعايش مع الفن والأدب بمصداقية مطلقة، حيث إن ذاته ارتبطت بالصورة والحدث والمعاناة والألم والحلم، جمعة الفيروز أول من تلمس هوايتي في العزف على العود ووجهني وأعطاني الكثير من الملاحظات على طريقة الغناء الصحيحة وكيفية مسك العود والتعامل معه· أما بخصوص التشكيل فكان معجباً بأعمالي، وأهديته لوحة لرجل عجوز نفذتها بالحرق على الخشب، وكان يحتفظ باللوحة في مجلسه الخاص، وقال لي ذات يوم هذه صورتي عندما أكبر (1982)، وقال لي واصل ولا تنقطع عن الرسم والموسيقى، فأنت لديك ما لا يوجد لدى غيرك والاستمرارية كفيلة بإيصالك لموطن الإبداع· رحم الله جمعة الفيروز ذلك الرمز الكبير، فالأدب عنده ليس محطة في شاطئ مهجور، وإنما هو صورة لواقع معاصر مليء بالأمل، ويمكن إنعاشه وتحقيقه، فإبداعاته تجد فيها مرآة الذات، وتتلمس فيها الألفة والود والبوح والحنين والفوضى الخلاقة والسريالية التي لا يعرف سرها سوى المسكونين بدهشة لا تنتهي''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©