الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رثاء الخراب...

رثاء الخراب...
18 يونيو 2008 23:41
قد لا يجد القارئ رواية عربية حديثة تنعى المثقف ودوره في المجتمع كما سيجدها في رواية ''تغريدة البجعة'' للكاتب المصري مكاوي سعيد· هذه الرواية التي تجري أحداثها في الزمن القريب فتجعل قارئها على تماس واضح مع الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي لمدينة القاهرة، متتشابكة بالضرورة مع الماضي الذي يعود الى اربعة عقود تقريبا· يتم كل ذلك من خلال سرد على لسان الراوي الرئيسي مصطفى الشاهد على انهيار طبقته المتوسطة وتقهقر أفرادها من فئة المثقفين تحديدا: فنانون تشكيليون، مخرجون سينمائيون، ناشطون سياسيون، صحفيون وكتاب· ومن انهيار هذه الطبقة تتكون أخرى جديدة أساسها الاصولية والصاعدون الجدد من اصحاب المهن اليدوية، وافراد هامشيون احترفوا التشرد والجريمة· ينطلق الكاتب بروايته من مكان عام، المقهى، حيث الفسحة الأرحب للقاء غالبية شخوصها، بعلنيتها المضادة للاماكن المغلقة· مقاه موجودة في الواقع مثل زهرة البستان ومقهى ريش وكلاهما ملجأ المثقفين، اضافة الى اخرى من غير اسم داخل الرواية، ولكنها جميعا فسحة مفتوحة على احتواء المجتمع بنماذجه المختلفة بعد ان ضاقت بهم الاماكن الاخرى· من غير ان يمنع المكان المرشح لفضاء الرواية الارحب، من ان يحن سارد الرواية دوما لبيت العائلة في الطالبية، حيث جرت بعض من احداث الماضي المحمل بالحنان والمشاعر الحلوة، في ذلك البيت عاطفة الاسرة الفياضة ولمة الاصدقاء واشتراكهم في اسرارهم السياسية والعاطفية وفي الدراسة· يغيب ما هو شبيه لهذا البيت في الزمن الحاضر داخل الرواية، لتغدو كل البيوت خانقة غير قادرة على منح مصطفى الشعور بالأمان في عالم اختلفت علاقاته وشروطه، وهذا ينطبق حتى على شقته الخاصة· لكن موقع المقهى ايضا ليس بالمكان بالمطلق، انه في منطقة البلد، القلب النابض لمدينة القاهرة وحيث تمر الشخوص من كل نوع، محلية وعالمية، متعلمة وأمية، ذات مراكز اجتماعية ومهمشة· من خلال هذا القلب نشهد التحذير بالانتحار القادم· انهيار المشروع التنويري تدور أحداث الرواية أساسا على خلفية التحضير لفيلم تسجيلي عن اطفال الشوارع يعمل عليه مصطفى بالتعاون مع مارشا الاميركية التي تؤمن التمويل من جهات غربية· يتحدد دور مصطفى بكونه كاتب السيناريو وجامع المعلومات بالكلمة والصورة يستمدها من كريم المتشرد الذي يدخل الى الاصلاحية ويخرج عدة مرات، وهو في الاساس ابن نسب معروف له ''اهل وفصل'' كما يشير السارد الرئيسي، لكن ظروفه الحياتية اجبرته على البحث عن حريته المقموعة بعيدا عن عائلة تعيش بين الريف والمدينة وتحوي 15 أخا وأختا من أب يعمل جزارا وارتبط بعدة زوجات· عن الاطفال المشردين وما يمكن ان يسمى ''طبقة'' من المتشردين، يعيشون في بيئة شروطها مزرية لكنها تشكل مجتمعا موازيا للمجتمع الرسمي· يواجه مصطفى ماضيه بشخوصه الذين راحوا يبهتون اثناء إعداده فيلما عن الحاضر، لكن الخراب المعاصر في المجتمع بكل تجلياته لم يأت من فراغ· انهارت طبقته المتوسطة بمثقفيها بعد ان غاب مشروعها التنويري التحرري، وغاب العقل· ويتجلى هذا الهروب بمسلكيات مختلفة، سواء هروبا نحو الجماعات الاصولية او الى إدمان الكحول والمخدرات، وربما امتد الى آفاق الهجرة نحو بلدان الله الواسعة، الخليج واميركا وبلدان الشرق الاقصى، كل بحسب تجربته· الكل في حالة هروب أو يسعى لها: أحمد الحلو اليساري المتطرف يعمل في السعودية عدة سنوات ويعود الى مصر متخليا عن تطرفه اليساري نحو تطرف في التدين وتكفير كل شيء في المجتمع، فيتخلى عن عمله كمهندس ويبيع البسبوسة أمام باب الشركة التي اعتاد العمل فيها، ''بحجة تحريمه لاموال السلطة غير الحلال''· وهناك صلاح الفنان التشكيلي الذي يجد في زواجه من امرأة ناجحة من سنغافورة مهربا من واقع مدينته، فيستعد للهجرة ونقل نشاطه قبل ان يصاب بصدمة موت الزوجة الاسيوية بالسرطان· غياب مبرر الهجرة يدفعه الى هجرة داخلية عن مجتمعه، نحو التصوف والتحليق في الوهم، متخليا عن مشروعه الفني الفكري رافضا حتى فكرة جمع انتاجه من اللوحات في مكان محدد· أما زينب القادمة من الاقاليم والتي تبحث دوما عن فرصة إثبات نفسها كصحفية متنقلة بين اكثر من علاقة، فتهاجر الى المكسيك خلف الحبيب المغني بحثا عن عالم يحترمها بعد ان ظلت على هامش المدينة الكبيرة· أما السارد الرئيسي مصطفى، المصاب بشيزوفرينيا ترمز الى انفصام طبقة ومجتمع بأكمله، فلا تنفع معه أدوية الكآبة او اللجوء الى الكحول او المخدرات، فينهي حياته بالانتحار· قبل ان يفعل ذلك، يسلم قطعة السلاح التي كانت في عهدته وتعود لطيار قتل في حرب 67 الى كريم، بعد ان اشترى له محلا يساعده على هجر حياة التشرد· هل سيستخدم كريم السلاح يوما ما كطبقة صاعدة؟ تضيف الرواية سؤالا صعبا الى الاسئلة المفتوحة الكثيرة التي تمور بها رواية ''تغريدة البجعة''· موقف مضاد للأجنبي والمرأة تعتمد بنية الرواية على السيرة الذاتية وتسجيل يوميات مصطفى الذي ينبش في تجليات انهيار مجتمعه، هذا المجتمع الذي لا يبدو انه يعيش حالة صراع درامية بين الخير والشر، كما كان في السابق· انه مجتمع ساحت فيه الألوان على بعضها وانتشرت الفوضى والعشوائية والفساد والخراب من غير أي ضابط· وفيه تبدو الشخصيات الاجنبية هي الاكثر تماسكا قياسا بأفراد المجتمع الاصلي، مع تحامل واضح طوال الرواية على مارشا الاميركية التي رغم الاهتمام الذي توليه لمصطفى الا انه لم ير فيها سوى انتمائها لبلد مكروه شعبيا· يلفت الانتباه في الرواية ايضا موقف المثقف ابن الطبقة الوسطى من المرأة، فلا يكنّ مصطفى احتراما الا لهند زميلته في الجامعة التي قتلت ضمن نشاط للكشافة بمتفجرة قديمة تعود الى الحرب العالمية الثانية· عدا ذلك يهزأ السارد من نشاط النساء السياسي ومشاركتهن في المظاهرات والاحتجاجات، كأنه يعتبر ان التغيير في المجتمع دور ذكوري بحت، او ان ذلك هو واقع الحال· النماذج النسائية ضعيفة تتبع الشخصية تيارا سياسيا ما، لأن زميلها الذي تحبه أو زوجها، ينتمي اليه· أما شقيقتا مصطفى فيفصح عن كراهيته لهما لكون واحدتهما إمعة لزوجها لذا يقرر ان يترك جزءا من وصيته لأبنائهما وليس لهما· كذلك هناك نموذج زينب التي تحاول ان تكون امرأة بروح حرة وجسد حرّ، لكنها لا تلقى الاحترام الكافي من المجتمع وتبقى على الهامش، كذلك الحال مع ''وردة'' زوجة كريم القادمة من قعر التشرد· حساسية أدبية وصوت جديد ترصد الرواية بحساسية فائقة ومتعة سرد، انهيار مجتمع بأكمله في فترة تترواح بين الستينات حتى الحاضر· مجتمع يعيش احتضارا ويطلق صرخته الشبيهة بتغريدة البجعة الأخيرة قبل موتها· الحساسية التي كتبت بها هذه الرواية جعل منها شاهدا أدبيا جريئا ونبيلا على مجتمعها، ولفتت انتباه لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية واختيرت ضمن القائمة القصيرة· هذا الاختيار قدم كاتبها كصوت جديد في الرواية العربية، رغم أنه بدأ الكتابة منذ سنوات قبل ان ينجح في لفت الانتباه اليه· وكانت حيثيات اللجنة في سبب اختيار روايته هي التالي: ''يشتق مكاوي سعيد في هذه الرواية الشكل الروائي من واقع اجتماعي متحول متبدل· ويعين الشكل الجديد مدخلا الى قراءة الواقع وتحولاته في عمل روائي جميل يرثي زمنا غنائيا مضى، ويصوغ المستقبل المحتمل بأسئلة من غير إجابات''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©