الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رومولو لوريتو: الجزيرة العربية خزّان التأويل

رومولو لوريتو: الجزيرة العربية خزّان التأويل
2 مايو 2018 19:42
يُعتبر عالم الآثار الإيطالي رومولو لوريتو أحد أبرز أعلام المدرسة التاريخية الإيطالية في الوقت الراهن. وهي مدرسة عريقة حفلت بالعديد من المؤرخين مثل ماريو ليفِراني، وباولو ماتييه، وباولو بروساسكو، وأليساندرو دو ميغري، وانصبّ جانب من انشغالات تلك المدرسة على البلاد العربية. هذا وقد سبق للباحث لوريتو أن نشر ضمن منشورات جامعة «الأورينتالي» في نابولي مؤلَّفاً بعنوان: «الهندسة السكنية والقصور الملكية في شبه الجزيرة العربية خلال حقبة ما قبل الإسلام (القرن السابع ق. م- القرن السادس م)». كما أعدّ مؤلّفاً أيضاً بعنوان «الهندسة المعمارية الدينية في شبه الجزيرة العربية»، نشِر ضمن منشورات الجامعة المذكورة، فضلاً عن مشاركات في ملتقيات علمية، وتدبيج جملة من التقارير الأثرية عن شبه الجزيرة. وهو في الوقت الحالي مكلَّف بالبعثة الأثرية الإيطالية في المملكة العربية السعودية. في كتابه الجديد الصادر عن دار نشر موندادوري الإيطالية بعنوان «في أصول العرب»، والمنشغل أساساً بالجزيرة العربية إبان العصور القديمة، أماط الباحث اللثام عن عديد الحقائق التاريخية المهمة. صاغها في حوصلة معتمداً ما باحت به الكشوفات الأثرية بُعيد الانفتاح على البعثات الأثرية الأجنبية. بمناسبة صدور عمل الباحث لوريتو أدلى بحوار معمق نورد هنا فحواه. الجزيرة كانت خضراء * نشرتم أخيراً كتاباً بعنوان «في أصول العرب»، في دار نشر موندادوري الإيطالية: أي ثراء أركيولوجي تختزنه المنطقة؟ ** ضمن منطقة الشرق الأوسط، تمثِّلُ الجزيرة العربية أقلّ المناطق التي حظيت بالبحث الأثري. وذلك عائد إلى أسباب عدة، فإلى حدود العام 2000، ساد خطأ في أوساط المؤرخين أن المنطقة كانت معبَراً للرحّل، تتناثر فيها واحات قليلة عبْر فضاءات صحراوية شاسعة وتتخلّلها طرق للقوافل. في واقع الأمر، الحقيقة على نقيض ذلك. فمنذ عقدين تقريباً، تعددت البعثات الأثرية التي كشفت عن عديد المواقع الأثرية الممتدة على مجال زمني واسع، من العصور الحجرية لفترة ما قبل التاريخ، إلى ممالك القوافل في شمال الجزيرة في الألف الأولى قبل الميلاد، وإلى غاية ظهور الإسلام. ولإدراك ثراء التراث التاريخي والأثري في الجزيرة ينبغي فهم نقطة محورية. أن مناخ المنطقة القديم كان مختلِفاً جذرياً عمّا هو عليه اليوم. إذ يمكن الحديث عن الجزيرة الخضراء. فقد بيّنت الدراسات المورفولوجية أن قسماً صحراوياً هائلاً من الجزيرة العربية هو ظاهرة حديثة المنشأ. برز جراء حالة الجفاف التي ضربت المنطقة قبل ستة آلاف عام. وقبل ذلك العهد كانت الجزيرة وفيرة المياه وارفة الظلال، فضلاً عن عديد البحيرات والوديان المنتشرة في المنطقة، والتي كانت تجلب الإنسان وتغري بالعيش على ضفافها منذ فترة العصر الحجري. لذلك تظهر الجزيرة من بين أثرى المناطق الأثرية في الشرق الأوسط القديم في ما يتعلق بثقافات ما قبل التاريخ، حيث شكّلت جسراً لعبور الإنسان الأومينيدي، على غرار «الإنسان المنتصب»، من إفريقيا باتجاه آسيا، وكذلك مثّلت مأوى لجماعات الرحّل وشبه الرحّل الكثيرة، إبان العصر الحجري الحديث، الذين خلّفوا عشرات الألوف من البقايا الأثرية المتناثرة على ضفاف البحيرات ومجاري الأنهار. يتعلق الأمر بجماعات كثيرة تمتهن الصيد والقنص، جراء وفرة الطرائد، حيث يتيسّر العيش دون ممارسة الزراعة السقوية أو البعلية. وبالفعل إذا ما كانت تجمعات القرى في الشرق الأوسط القديم تعود إلى الألفية الثامنة قبل الميلاد، فهي في الجزيرة العربية تضاهيها قِدماً. وإذا ما بلغنا الألف الأولى قبل الميلاد، أو الفترة التاريخية لممالك القوافل في شمال الجزيرة، مثل اللحيانيين والأنباط، وكبريات ممالك الواحات التي تقوم على تجارة القوافل، نلحظ عمق التطور الحضري في المنطقة. الأمر الذي خلّف العديد من المراكز الحضارية المتقدّمة في الواحات، والتي شكّلت عواصم تجارية مثل القريات وتيماء ودومة الجندل والعلا (ديدان) ويثرب، ومدائن صالح، وتاج، وقرية الفاو وغيرها. عبور * ما هي الشعوب التي سكنت الجزيرة العربية قديما قبل الإسلام؟ ** تملي المصادر التاريخية إيراد بعض التفصيلات بالنسبة إلى الحقبة المتراوحة بين الألف الأولى قبل الميلاد وفترة ظهور الإسلام، وبشكل أقلّ في ما يتعلق بحقبة ما قبل التاريخ، وذلك عائد إلى نقص الاكتشافات فيما يخص علم المخلّفات العظمية. مع ذلك وعلى أساس مقارنة التقنيات الحجرية ودراسات الآثار الجينية الحديثة باعتماد الحمض النووي (DNA)، تيسّرَ التأكد من عبور «الإنسان المنتصِب»، من أفريقيا نحو آسيا، عبْر الجزيرة العربية أثناء العصر الحجري القديم السفلي، أي منذ قرابة مليون ونصف المليون سنة، وكذلك مرور «الإنسان العاقل» في العصر الحجري القديم العلوي، حوالي 65 ألف سنة خلت. وبالنسبة إلى الفترة اللاحقة، أي العصر الحجري الحديث، يمكن أن ندلل على تواجد جماعات من الصيادين الرحل والجمّاعين، تضاهي ما عليه مستوى التطور في منطقة الهلال الخصيب. ففي فجر العصر البرونزي، أي بين الألف الخامس والألف الثالث قبل الميلاد، تشكّلَ مكونٌ ثقافي ميزَ الجزيرة إلى اليوم، أو لنقل مكوَّناً من الناس المقيمين، يطوفون حول الواحات الناشئة، ناهيك عن جموع من الرحّل، يتّبعون نظام حياة متحركا بلغ صداه إلى عصرنا الراهن على هيئة مدافن وأبراج تواجدت على طول طرق القوافل. ومع الفترة التاريخية بِتْنا نملك العديد من المصادر المدونة سمحت لنا بتعريف شعوب الجزيرة بشكل أدق، مثل أسفار العهد القديم، وحوليات ملوك آشور، والمصادر البابلية الحديثة، وآثار الكتّاب الأغارقة الرومان، والمصادر العربية لممالك حمير، وكذلك المصادر العربية الوسيطة. ممالك القوافل * هل كانت تجارة القوافل هي أساس اقتصاد الجزيرة؟ ** في الواقع، كان اقتصاد القوافل أحد الأسباب الرئيسة التي تطوّرت بفضلها حضارة الواحات. فقد كان النهوض الفعلي نتاج النظام الفلاحي الذي نجحت كل واحة في تطويره، وهو ما انبنى على نظام ريّ اعتمد شبكة قنوات وسدودا وآبارا ومجار مُدّت في باطن الأرض. توزعت على مسافات منتظمة، حتى غدت الواحات محطات ضرورية لمسار يربط كافة أطراف الجزيرة من جنوبها إلى شمالها. وبالتالي أصبحت تجارة القوافل جزءا لا يتجزأ من اقتصاد جزيرة العرب، وهكذا غدت المنطقة ملتقى عالمياً لسبب بسيط، فمع البضائع كان يحلّ ويرحل أناس وأفكار وقيم وأديان. من جانبه تحدّث المؤرخ هيرودوت عن أن آخر الأراضي المسكونة هي منطقة الجزيرة العربية الجنوبية، والتي تعبق برائحة إلهية، حيث نجد البخور والمر والقرفة والأكاسيا والكانيللا. وفي الفترة الهللينية كان إراتوستينس القوريني (ليبي) أولَ كاتب يتحدث عن «العربية السعيدة» (Arabia Eudaimôn) مشيدا بخصوبة الأراضي وثراء المنطقة. وفي عهد الإمبراطور أغسطس قيصر تزايدَ الطلب على البخور والعطور، إلى حد أن كلّف والي مصر أيليوس غالوس بوضع يده عل المناطق المنتِجة وعلى الطرقات الرابطة التي تسير فيها قوافل البخور. ما نعرفه اليوم أن أماكن إنتاج البخور والعطور كانت بالأساس في حضرموت (شرق اليمن) وفي ظفار (غرب عمان)، وكانت تسهر عليها سلطات دينية. فقد كان يتمّ إعداد المنتوجات في شبوه عاصمة حضرموت. من هناك تجري عمليات التسويق جنب بضائع أخرى (المرمر والقماش والخشب) سواء باتجاه مدن ممالك القوافل، حيث تجري المبادلات التجارية في أسواق حضرية منتظمة تسهر عليها سلطة ملكية، أو كذلك باتجاه مواضع الإقامة والاستراحة التي توجد على طول طريق القوافل عبر الجزيرة. أثر سطحي * ما هو الأثر الذي خلّفه الرومان في شعوب الجزيرة العربية؟ ** ما كان حضور الرومان مطوَّلاً على غرار حضورهم في مناطق أخرى، وهو ما جعل أثر الروْمنة في المنطقة سطحياً ومحدودا. حين أنشأ تراجان ولاية العربية (105 - 106م)، والتي تزامنت مع مملكة الأنباط (البتراء في المصادر الكلاسيكية)، واختار لها بصري عاصمة، غدت البتراء مدينة كبرى متعددة الأعراق والأديان. هذه المدن وغيرها مثل عمّان الحالية، عرفت تطورا معماريا مشهودا، بإنشاء المسارح والمعابد، واعتماد اللغة اللاتينية على المستوى الرسمي، وهو ما تثبته العديد من النقائش. في حين بقيت المناطق العربية، التي أطلق عليها الرومان «العربية الصحراوية» (شمالاً) و«العربية السعيدة» (جنوباً) بمنأى عن تأثير الثقافة الرومانية، حيث لا تتخطى النقائش العام 360 م. فقط في شمال الجزيرة العربية، في مدائن صالح ودومة، شهدت المنطقة تشييد معالم ضخمة من قِبل الرومان، ودائماً على صلة بأغراض عسكرية، فقد كانت الأبنية بمثابة قلاع لمراقبة طرق القوافل يقيم فيها مكلَّفون بشؤون الحراسة وجماعات من الجمّالة يطوفون لمراقبة الحدود. نجد شيئا مماثلا في جزر فرازان على البحر الأحمر، على الحدود مع العربية السعودية واليمن اليوم، حيث يتوقف أسطولٌ مهيّأٌ لمراقبة سير الملاحة البحرية. وبالتالي ما كان لروما القدرة على بسط نفوذها في تلك الأراضي الواسعة، ولم تكن حاضرة سوى في بعض المناطق مثل الأردن اليوم، لكن صدى ثقافتها بلغ أطرافاً نائية. * ما هي أهم الحقول الأثرية في شبه الجزيرة العربية؟ ** يتميز تراث الجزيرة العربية الأثري بثراء كبير، يمكن توزيعه على صنفين من الحقول: من جانب نجد حقول ما قبل التاريخ، والتي تتميز برحابة صحراوية ووعورة جبلية، تتخللها كهوف وقبور ومدافن، نجد فيها رسوماً قديمة تروي حكايات القنص وتحدّث عن الآلهة أو صوراً لمشاهد راقصة، فضلاً عن رموز طقسية ومنافسات مبارزة بين فرسان أو جمّالين على ظهور الجمال، إلخ... ومن جانب آخر نجد الواحات الحضرية. تصادفنا من الشمال إلى الجنوب، بمتابعة طريق القوافل، حقولا تعود إلى ألوف السنين، تتقاطع مع أحداث الإمبراطوريات الكبرى الرومانية والبيزنطية والفارسية والأكسومية وممالك جنوب الجزيرة، مثل سبأ. وصعودا من اليمن يصادفنا حقل نجران، وهي عبارة عن مدينة حصينة تتربّع على منطقة فلاحية شاسعة. أقيمت هنا، منذ القرن السابع قبل الميلاد مملكةٌ عرفت تشييد مدينة الأخدود الشهيرة خلال القرن الرابع قبل الميلاد. وبالصعود نحو الشرق نصادف قرية الفاو، وهي عبارة عن واحة مترامية الأطراف تقع في أكبر صحارى العالم، الربع الخالي. ورَدَ ذكر الواحة في مصادر جنوب الجزيرة باسم قرية الفاو وأيضاً باسم «مدينة النعيم» لما ميزتها من خضرة يانعة في قلب الصحراء. تفتقر المدينة إلى سور، كونها محمية بالرمال الممتدة. حيث كشفت الأبحاث الأثرية في المنطقة عن ثقافة ثرية تداخلت فيها تأثيرات جنوب الجزيرة بتأثيرات الحضارة الهللينية - الرومانية. وبالتوجه شمالا، نحو الوسط الغربي للجزيرة نلاقي مكة ويثرب وفدك وخيبر. تحدّثنا المصادر عن ثراء المنطقة فترة ما قبل الإسلام. فقد كانت تلك المدن محطات محورية في طريق القوافل. وبالاتجاه شمالا، نجد الواحات الكبرى لتيماء وديدان وهجرا ودومة الجندل. بإيجاز نقول: نحن في مستهلّ اكتشاف الجزيرة العربية، فالمنطقة شاسعة وعامرة بالآثار والنقائش، وهي مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات. الحوليات الآشورية ومصطلح «العرب» تروي الأسفار التوراتية عن قبائل العرب الاثنتي عشرة قاطنة الصحراء، والتي تعود إلى بني إسماعيل الاثني عشر «سفر التكوين 25: 13-16». وبعض من هؤلاء مذكورون في المصادر الآشورية العائدة إلى القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، حيث تُورد الحوليات الآشورية مفردة «العرب»، كتجمّع لشعوب سامية مترحّلة أطلِق عليها هذا المصطلح، بحسب نعت عرقي وليس سياسي، وهو أول ذِكرٍ لمصطلح «العرب» في التاريخ. تورد الحوليات أسماء ملك «شار» بالأكدية وملكة «شارات»، في حين يبقى التشكيل القبلي الأكثر ورودا هو قيدار، كما يتردد الحديث غالبا عن ملك قيدار مرفوقاً بملكة عربية، شيّدا معاً عاصمة أطلقا عليها أدوماتو، المعروفة اليوم بواحة دومة الجندل. تاريخ حافل جراء تأخر الاشتغال المعمَّق بمنطقة الجزيرة، ساد حكمٌ خاطئٌ في السالف بين علماء الآثار أن المنطقة هامشية، بما يعني انتفاء المدنية والإنجاز الحضاري في العصور القديمة، غير أن ذلك الرأي سرعان ما تلاشى مع انطلاق الأبحاث الأولى وتواتر البعثات الأثرية، التي بيّنت أن تاريخ المنطقة حافلٌ بالتطورات. --------------- الحوار منشور في مجلة «لِتّوره» الإيطالية بتاريخ 10 مارس 2018
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©