الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مماحكات فكرية أم مناكفات سياسية؟

مماحكات فكرية أم مناكفات سياسية؟
17 ابريل 2013 20:47
تجري حاليا في تونس «حرب ناعمة»، وهي حرب فكرية تدور عبر الكتب الصادرة في فترة ما بعد تولي «حركة النهضة» ذات الخلفية والتوجه الاسلامي حكم تونس، فهناك كتب تدافع عن الإسلاميين وأخرى تهاجمهم. و»المعركة» بين الإسلاميين والعلمانيين، والتي تدور رحاها تحت قبة «المجلس التأسيسي» وفي الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، انتقلت الى الكتب، وتزخر واجهات المكتبات حاليا في تونس بعناوين تدافع عن قناعات هذا التوجه أو ذاك، وفي هذا السياق يندرج هذا الكتاب الذي يحمل عناون: «تونس الدين أو الدولة: مغالطات وحلول» لمؤلفه رضا الشنوفي أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية. توضيح والسؤال الأول الذي يطرحه الكتاب هو: ما الذي يدفعنا إلى توضيح معنى العلمانيّة؟ ويؤكد المؤلف في إجابته أن ما دفعه إلى توضيح معنى العلمانية أنه في الأسابيع التي تلت الثورة التونسيّة، عمدت بعض القوى السياسيّة ذات الخلفيّة الإسلاميّة إلى شنّ حملة عنيفة ضدّ العلمانيّة مناديّة بدولة ذات طابع إسلامي ممّا أثار الرعب والاستغراب لدى شريحة مهمّة من النّاس. ولقد جاء «إعلان الحرب» هذا ـ وفق تعبير المؤلف ـ كردّ فعل على مطالبة قوى يساريّة ومنظمّات نسويّة فاعلة في المجتمع المدني إقامة دولة علمانيّة وإلغاء الفصل الأوّل من دستور تونس 1959 الذي ينص على أنّ الإسلام هو دين الدولة. وانجرّ عن هذا السّجال بين مختلف الأطراف الكثير من الخلط ومن سوء الفهم ـ على حد تعبير المؤلف ـ ويعود ذلك أساسا إلى حساسيّة موضوع العلمانيّة على المستويين: الديني والسياسي. ويكفي لتوضيح درجة التعقيد الإشارة إلى أنّ التعارض فيما يتعلّق بالعلمانيّة، ليس تعارضا بين الملحدين والمؤمنين فقط، كما أنّه تعارض داخل صفّ العلمانيين أنفسهم. واستشهد المؤلف بمحمد الطالبي، وهو المفكّر المسلم، الذي أكد أنّ الإسلام علمانيّ، في حين يصف قادة حركة «النهضة» العلمانيّين بالملحدين. وفي هذين الموقفين دليل، من وجهة نظر المؤلف رضا الشنوفي، على أنّه لا إجماع حول مسألة العلمانيّة لدى المسلمين السنّة، كما لا يختلف الأمر لدى الشيعة المجتهدين داخل هذا المذهب، فهم أيضا لا يتّفقون حول هذه القضيّة. ويستدل المؤلف على استنتاجه هذا بتعارض إيّاد جمال الدين مع موقف رجال الدين العراقيين والإيرانيّين الذي يقول إنه يمثل عيّنة لهذا الاختلاف، تؤشّر الى حدّة الاختلاف بين الذين يتكلّمون بوصفهم مسلمين إلى انعدام فهم موّحد للإسلام، فبينما يتشبّث بعضهم بالقرآن بوصفه قيمة روحيّة وأخلاقيّة سامية يعتقد البعض الآخر أنّ القرآن هو شريعة وقانون ملزم. معنى أما السؤال الثاني الذي طرحه المؤلف في هذا الكتاب فهو: هل للعلمانيّة معنى في المجتمعات الإسلاميّة؟ ويجيب بالقول: ان مفهوم العلمانيّة يحيل حسب ما هو شائع إلى التمييز بين رجال الدين ـ أو موظفي الكنيسة ـ من ناحية وغيرهم من أفراد المجتمع الذين يشاركونهم في الدين من ناحية أخرى. وبما أنّ المجتمعات الإسلاميّة لا تعرف مثل هذا التمييز فإنّه لا مجال حسب هذا التصوّر ـ من وجهة نظر المؤلف ـ لتطبيق هذا المفهوم في المجتمعات، وتصبح بالتالي العلمانيّة لا معنى لها في هذا الإطار. ويؤكد الكاتب انه يتعيّن من ضمن الأولويّات التحقّق من صوابيّة هذا التصوّر السائد. فإذا ما تبيّن انعدام التمييز بين فئة رجال الدين وبقيّة أعضاء المجتمع في العالم الإسلامي، يصبح من اليسيير التخلّي عن الدعوة لإقامة دولة علمانيّة، لكن يبقى البحث في إمكانيّة الاستعمال القانوني والسياسي لكلمة العلمانيّة هو الأمر الأكثر أهميّة لأنّ ذلك يجعلنا نتّجه نحو تحديد ما يمكن تسميته «الدولة المدنيّة» كما إنّه يجنّبنا أيضا الكثير من الغموض والنزاعات التي لا جدوى من ورائها. تعارض والسؤال الثالث الذي يطرحة الكتاب هو: هل تتعارض العلمانيّة مع الدين؟ ويجيب أستاذ الفلسفة السياسية بالقول: ان الدولة العلمانيّة تعرف بوصفها دولة مؤسسة على الفصل بين الدين والدولة في حين أنّ التعبير الدقيق عن مبدأ العلمانيّة يتلخّص في الفصل بين الكنائس والدولة. ويدعو المؤلف الى الانتباه إلى أن كلمة كنيسة ودين لا تحملان نفس المعنى، وأن العلمانيّة لا تعني معاداة الدين بوصفه رسالة روحيّة وأخلاقيّة تسعى إلى تكريس القيم ذات البعد الكوني كالمساواة والكرامة والحريّة. أمّا سبب معارضة العلمانيّة للقواعد القانونيّة التي ينظر إليها التيولوجيون بوصفها مقدّسة فهو يعود إلى حرصهم على عدم اختزال المضمون الكوني للدين في مجموعة قوانين ناتجة عن ظروف تاريخيّة معيّنة. ويشير الكتاب الى ضرورة تجنّب كلمة «علمانيّة» لما يحيط بهذه الكلمة من لبس، كما أنّنا نأمل التوصّل إلى إبراز أفضليّة اعتماد عبارة «الدولة المدنيّة» عن إعتماد عبارة «الدولة العلمانيّة». وسعى المؤلف رضا الشنوفي الى ما يسميه تفكيك بعض الأفكار المسبّقة حول هذه المسألة. وهو يرى زنه من المغالطة القول: أن تكون علمانيّا يعني أنّك ملحد: هذا القول باطل. حسب رأي الكاتب، مؤكدا أنه ليس لمثل هذا الخوف ما ببرّره، وذلك لسببين على الأقلّ: أوّلا، لا توجد علاقة بين العلمانيّة ومسألة الهويّة، فالعلمانيّة لا تقدّم إجابة لحاجة الإنسان للانتماء إلى مجموعة بشريّة، كما أنّها غير معنيّة بمسألة إرتباطه بقيم دينيّة أوفلسفيّة ـ يعتبرها البعض حقائق ثابتة ـ بل يمكننا أن نجزم أن العلمانيّ يمكن أن يكون مسلما كما يمكنه أن يكون مسيحيّا أو بوذيّا أو ملحدّا. ثانيّا، ليست العلمانيّة نفيا لوجود اللّه ولكنها تصوّر لتنظيم السلطات العموميّة. وأورد المؤلف في كتابه ان راشد الغنوشي رئيس حركة «النهصة» أشار في نصّ له يحمل عنوان «الإسلام والعلمانيّة» ـ وكانت إشارة صائبة وفق تقييم رضا الشنوفي ـ إلى أن العلمانيّة كانت في مرحلة أولى ترتيب إجرائي يهدف إلى حماية سلطة الدولة من الحروب الدينيّة، ثمّ أضاف أنّها أصبحت في وقت لاحق، مع اليعاقبة الفرنسيين ومع كارل ماركس، نظريّة فلسفيّة معادية للدين. ثورة ومؤلف هذا الكتاب، وهو أكاديمي وأستاذ بكية الآداب بتونس، يؤكد أنه لا ينكر أحد أن بعض الثوريين الفرنسيين قد رفعوا أثناء الثورة شعارات منافية للدين أو بصفة أدقّ معادية لرجال الكنيسة، لكنه يتساءل: هل يعني ذلك أن الثوار الفرنسيين كانوا ملحدين ومؤيّدين لفكرة فصل الدين عن الدولة؟ ويجيب بأنه لا يمكن الجزم بمثل هذا الأمر، خاصّة وأنّ روبسبيير Robespierre وإلى حدّ سنة 1794 قد جعل يوما للاحتفال بـ»الموجود الأسمى». وأورد الكاتب انه كان يتمّ خلال هذا اليوم حرق «صنم الإلحاد» الذي يعتبر معادي للمواطنة. وعلاوة على المواقف التي تبنتها مختلف الفصائل التي تعاقبت على رئاسة الجمهوريّة الفرنسيّة فإنّ الأهميّة تكمن في النصوص القانونيّة المؤسسة والمعبرة عن الإرادة الشعبيّة. فإذا ما راجعنا توطئة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» لسنة 1789 فإنّنا سنتفطّن إلى أنّ الاعتراف بهذه الحقوق يتمّ تحت رعاية هذا «الموجود الأسمى» في حين ينصّ الفصل العاشر من هذا الإعلان على «أنّه لا يجب التعرّض لأيّ كان بسبب آرائه بما في ذلك آراءه الدينيّة». ومن خلال التأكيد على حريّة التعبير عن القناعات الدينيّة يعلن المشرّع أنّ حريّة المعتقد لا تقتصر فحسب على حقّ كلّ مواطن في الاعتقاد دون إكراه وإنّما تتضمّن هذه الحريّة أيضا حريّة التعبير عن عقيدته وحريّة تدريسها. ويشير المؤلف انه في المقابل نجد نصّا واحدا يمكن أن يكون مصدر خلط بين العلمانيّة والإلحاد، وهو القانون الفرنسي المؤرخ في 9 ديسمبر 1905 والمتعلّق بالفصل بين الكنائس والدولة، إذ ينصّ فصله الثاني على أنّ الجمهوريّة لا تعترف بأيّ شعيرة من الشعائر ولا تمول أيا منها ولا تدفع أجورا لأعضائها. وجاء في الكتاب أنه خلافا لما هو شائع في هذا المجال أيضا، لا ينصّ هذا القانون على أنّ الإلحاد هو عقيدة الدولة، بل من المؤكد أنّ الدولة تعترف بوجود الأديان والنظريات الفلسفيّة وتمتنع عن البتّ في صوابها أو بطلانها، والحجّة على ذلك أنّ الفصل الأوّل من هذا القانون ينصّ أنّ «الجمهوريّة تضمن حريّة العقيدة وتضمن حريّة ممارسة الشعائر». فلسفة أمّا في ما يخصّ الماركسيّة فإنّ المؤلف يعود مرة اخرى الى زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي مؤكدا انه مصيب في قوله أنّ فلسفة الماركسيّة مؤسسة على الإلحاد، ولكنه مخطئ عندما يصوّر لنا الأمر وكأنّ كلّ الأشكال العلمانيّة هي بالضرورة ملحدة وكأنّ الهدف الأساسي للماركسيّة هو الإلحاد. وفي هذا السياق يحلل الكتاب الفلسفة الماركسيّة التي تقوم على الماديّة التاريخيّة وهي تتعارض مع فلسفة هيجل المثاليّة، لأنّ هذه الأخيرة تكتفي بتأويل العالم عوضا عن تفسيره تفسيرا يؤدي حتما إلى تغييره. ولقد فهم بعض رجال الكنيسة مثل البرازيلي دون هلدر كمرا Dom Hélder Câmara ـ وهو أكثرهم شهرة ـ أنّ ما هو جوهري في الماركسيّة ليس الإلحاد لذلك إنخرط في النضال من أجل «تيولوجيا التحرّر» خدمة للإنسانيّة إلى درجة أنّه أتّهم بالشيوعيّة. دولة وفي فصل آخر من الكتاب يتساءل المؤلف في كتابه: هل يجب الامتناع في الدستور الجديد ـ الذي هو الآن بصدد الإعداد ـ عن الإعلان أنّ «دين الدولة هو الإسلام» و»أنّ تونس لغتها هي العربيّة»؟ وجواب المؤلف على هذا السؤال: لا. وتعليله هو: أوّلا، عاش التونسيون طيلة نصف قرن في انسجام مع معتقداتهم وفي إطار قانون أساسي مستمد من فلسفة الأنوار الإنسانويّة ومن الفكر الإصلاحي الزيتوني، ولقد مضى من الزمن ما يكفي لكي يتأكدّ التونسيون أنّ مجلّة (قانون) الأحوال الشخصيّة وفصول دستورهم الضامنة لحرياتهم الأساسيّة لم تزعزع عقيدتهم ولم تمنعهم من التمسّك بهويتهم. علاوة على ذاك أصبح الآن ثابت للجميع نجاح النموذج التونسي لأنّ تونس هي أوّل بلد عربي إندلعت فيه ثورة سلميّة وهي ثورة لم يصنعها إيديولوجيون أو أئمة سلفيون. ثانيّا، لقد تمّ إعلان الإسلام دين الدولة من قبل المؤسسين لتأكيد هويّة الشعب. ولم يكن القصد جعل الإسلام أساسا لدولة تييولوجيّة، فدستور 1959 لم يستعمل عبارة «الدولة الإسلاميّة» وهو لا يعتبر أن وظيفة الدولة هي تطبيق الشريعة كما هو الحال في القانون الأساسي السعودي أو في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. وهو لا يشير أيضا إلى الإسلام بوصفه مصدرا للشريعة. ان المشرّع التونسي ـ وفق قراءة الأكاديمي رضا الشنوفي ـ اتّبع بالفعل التقليد التيولوجي فيما يتعلّق بالميراث، لكنّه حاول جعله أكثر إنصافا من خلال تعديلات مقبولة من أغلبيّة الشعب. يدلّ هذا الأمر ـ وفق تحليل الكاتب ـ على أنّ دواعي رفض المساواة في مجال الميراث ليست دواعي دينيّة فحسب، إذ يعلم الكثير من الرجال أنّ قبولهم المساواة في الحقوق مع النساء لا يؤدي إلى تخلّيهم عن الإسلام وإنّما سيفقدهم الكثير من الامتيازات الماديّة والاجتماعيّة. ثالثا، تعني مقولة «الإسلام دين الدولة» أنّه يجب أن يكون الدين بوصفه عبادة ورسالة روحيّة وأخلاقيّة تحت حماية الدولة المدنيّة. ولا يبدو للكاتب ـ خلافا لبعض الدعوات التي ارتفعت هنا وهناك في تونس بعد الثورة ـ أنه من الواقعيّ ولا من المستحبّ التوجّه نحو نظام يفصل فصلا تامّا بين الدين والدولة. لأنّ مثل هذا التوجّه يقصي الدين من الفضاء العمومي ويحصره في مجال الحياة الخاصّة للفرد. ويمنع هذا النظام على الدولة بناء الجوامع وتسميّة الأئمة وبرمجة التدريس الديني في المدارس والمعاهد العموميّة. على عكس ذلك فإنّ النظام القادر على الاستجابة لتطلعات المؤمنين وعلى طمأنة غيرهم هو النظام الذي يسمح بالإشراف على مختلف الأديان مع التزام الحياديّة. حوكمة ويصر المؤلف في خاتمة كتابه على أنّ العلمانيّة ليست «عقيدة ثابتة» ولكنها حوكمة ممكنة التطبيق بكثير من المرونة، وهذا ما يجعل الكاتب يعتبر تسميّة «الدولة المدنيّة» في الدستور التونسي المرتقب هي التسميّة الأكثر ملاءمة بالنسبة إلى بلد مثل تونس أو مصر أو ليبيا. كما سعى الكتاب الى تحديد الغايات الجوهريّة للدولة المدنيّة وخاصّة المساواة وحريّة الضمير، والمؤلف يجزم من وجهة نظره انه يمكن التفاوض على هاتين الغايتين لأنهما دعامتا المواطنة، خلافا لذلك يمكن التفاوض حول مبدأ الفصل بين التيولوجيا والدولة. ويقول المؤلف انه يدافع عن تحوير الفصل الأوّل من دستور 1959 القديم والذي ألغته الثورة، مع المحافظة على عبارة «الإسلام دين الدولة»، داعيا الى تطويع مبدأ الفصل بصفة عقلانيّة ومرنة، مستشهدا في هذا السياق بالدنمارك التي وضعت دستورا سنة 1953 ينصّ فصله الأوّل على أنّ «الكنيسة الإنجيليّة واللوثرية هي الكنيسة الوطنيّة الدنماركيّة وهي تحظى بوصفها هذا بمساندة الدولة». من جانبه يرى الناقد الجزائري عثمان لحياني ان رضا الشنوفي يهاجم في كتابه هذا ‹›تونس الدين أو الدولة››، الإسلاميين ويدافع عن العلمانية في تونس، ويحذر من أن الدولة الدينية، التي تطرحها التيارات الإسلامية، تعد خطرا على المجتمع التونسي، ويرافع لصالح العلمانية، ويعتبر أن العلمانية تجد لها أسسا في النصوص القرآنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©