الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجلسة السرية

الجلسة السرية
4 مايو 2011 19:37
تمزقت غلالة الماء المحبوسة في عينيها، وبدأت يداها النحيفتان ترتجفان، فيما نجحت شفتاها الدقيقتان بتكبيل عويل هادر. هاهي الجلسة اليومية تتلبسها، تُعيد لها ما حدث تماماً بتفصيلات وصور منزوية تظهر، وأنات مقهورة ترتفع مستلذة بامتلاك وصهر أذنيها. الجلسة السرية المنتصرة على جميع دفاعاتها تراجع معها دقائق ما كان... بعزيمة لا تكل وألم لا يُخفف، وأنين لا يخفت، وألوان من ذاكرتها لا تُبلى. صورٌ جديدة طازجة حية، تظهرُ كل يوم دون أن تنسى شمس الصيف المحرقة أو تغفل عن العرق الذي كان ينهمر بكثافة تحت عباءتها فيغسلها بالملح، ولا تتجاهل حتى الصمت المطبق الذي كان يلملم أسوار مدرستها الثانوية الكبيرة أو ريح الظهيرة التي تهز الشجيرات المحاطة بمدرستها... لا شيء يمل من التكرار . كان أخوها حينذاك قد تأخر عن الساعة الثانية والنصف ظهراً؛ الموعد الذي أكد لها إنه لن يأتيها بعده، فلتقطع الطريق راجلة فالبيت ليس بعيداً والناس في أمان . بعد أن تركت المدرسة تختفي وراءها تسللت ابتسامة صغيرة بدت نافرة وأجنبية عن باقي جسدها الواجم المتوتر، ربما لتطمئن نفسها بما سيأتي وتذكرها بنجاح ما مضى من رحلات سابقة. استهجنت قلبها المتدثر بالرهبة والأوهام والذي يصور لها بأن شخصاً ما يتبعها، يصوب نحوها سلاحاَ مجنوناَ حتى لتسمع أنفاسه اللاهثة، وتشم رائحته المستهجنة. ترضخ وتلتفت فلا تجد سوى الخوف وحده الذي يُهددها، التوتر لا يتوقف والقصص المرعبة التي تروى بين أفواه البنات كل يوم تتتابع وتتراص واحدة خلف الأخرى في أذنها فتلوي عنقها لتلتفت مجدداً. أيكون قلبها الشكاك المرتاب أكثر فراسة من عقلها المتطامن؟ نعم ... فقد استشعرت صوتاً حقيقياً يتتبعها. أدارت رأسها فلاحظت سيارة بيضاء قديمة يقودها شاب عشريني ضخم يمشي الهوينا خلفها بمسافة معقولة، فلما طال ترقبه خمنت أن الخبيث يتأكد من بُعد منزلها أو وجود أحدهم معها، ولما اقتربت سيارته منها واتضحت ابتسامته الشرسة الساخرة، أصبحت مجرد قلب يخفق وخطوات تتعثر. قال مراوداً إياها، باستخفاف مهين، فيما يراقب شريكه الثاني الشارع الساكن وفريسته المرتجفة النحيلة التي تطل عيناها الدامعتان خلف نقابها المبلل: يا حبيتي اركبي ولا تخافي... لن نتأخر ستكونين آمنة بين جفني عيني. ثم أخذ يُسمعها بصوته الجاف الغليظ أغانٍ هابطة ممزوجة بضحكاته القابضة على الانتصار. وهبت رجليها لريح الظهيرة، وعرجت على أول زقاق صادفها، وما زالت تذكر جدرانه الضيقة المتهالكة وعفونته الطازجة باستغنائه عن الشمس والهواء حتى لتحس الآن وهي محاطة بالأضواء الشديدة في منزلها بأنها تتضاءل تماماً كما كان في الزقاق المظلم الخانق. للحظة وحيدة ويتيمة أحست بالأمان يكتنفها حينما لم يشيع إلى أذنها حركته، ولكنه كان عنيداً ومفجعاً كالموت؛ فما لبثت أن سمعت صوت حذاءه الغليظ يرتطم بأرضية الزقاق المليئة بالأشياء المهملة، فبدأت ركبتاها تتخبطان أكثر مما تركضان، وسريعاً وقوياً كالقدر قبض على ذراعيها فطارت إليه كعباءة خاوية تناثر صوتها المستغيث المرتعد بين أزيز المكيفات الرخيصة والتي تفيض بالضوضاء أكثر مما تبرد ثم ضاع ما بقي من بحتها الواهنة المتسربة إلى آذان أصمها نوم القيلولة، فتأكد لها أن قوتها أضعف من رغبته وجسدها أهزل من شره . أغمضت عينيها ليتوقف شريط ما حدث أو لتتغافل عن تصور ما جرى، ولكن صور عينيها المغمضتين كانت أوضح وأنقى وأظهر... وقفت مستسلمة على سجادتها بين أخواتها وأبويها لتصلي العصر وقد انسكبت دموعها بهدوء وسكينة فبدت لنفسها كفاسق يأمر بالحشمة وكمارق يستسقي الرحمة. ها هي القبضة السمراء تتجرأ أكثر، تتوغل فتفك عباءتها وتصل إلى مريولها الأزرق الأنيق وتمزقه... حينها شيء ما توقد فيها، بل قوة ما ثارت وسلاح أخير ظهر؛ أنشبت أظفارها في عينيه، زرعت أسنانها في أصابعه وكفيه، وتناولت حجراً وكنمرة روعت مروضها انقضت عليه. أجفل الشاب وارتعد حين رأى الحجر الحاد الأطراف والذي تناولته للتو ملوناً بدمه. وكمجنونة وكمهووسة بالدم تابعت مرات عديدة، على هامة رأسه، دون أن تمهله ليستوعب ما يرى، بقوة لا تشبهها، وبإرادة لم تمتلكها قبل ذلك، فسقط على أرض معركته، وهنا فقط، ولأول مرة استطاعت أن تتأمل قسمات وجهه الطويل وهو يتمدد ويتقلص كأنما لم يتفهم ما يجري حوله وشعره المجعد وعينه الزائغة المرتاعة التي تحاول أن تستوعب الآلام الهائلة التي هبطت فجأة ... عيناه تظهرا لها تماما كما لو أن الأمر كله يحدث الآن. ها هي عروق يديه تباغت ذاكرتها وهي تطحن التراب تحته، ويدور جسده كله حول اليد الأخرى التي تمسك بجرح رأسه، مطلقاً أنات من فمه لا تشبه تأوّه جدها الموجوع أو تماثل نحيب إنسان متخبط ومجنون، فهي لا تحاكي أحدا سواه، أناته تلدغ كل يوم أذنيها. اللحظات التي وقفتها أمامه... أمام دموعه ودمائه التي لطخت وجهه، كإزميل ماهر حفرت في روحها، شكلتها كإنسان آخر، وبما أن القدر شاركها جريمتها، قرر ألا يتخلى عنها، ألا يتهاون في أقل التفاصيل، وألا تفلت منه فهو وحده القادر على تقديم الجريمة الكاملة. وها هي كمسيَّرة تسمع صوت أقدام قادمة تركض بهدوء وروية... بعد أن تلملم كل أغراضها المبعثرة، وتختار أكثر الطرق ذكاء وحرفية، لا تسمع أحدهم يتبعها. تواصل الطريق نحو البيت، عباءتها السوداء تغطي دماءه فيما أخفت الحجر في حقيبة مدرستها. دخلت بيتها. كان أفراد أسرتها مجتمعون على مائدة الغداء، في غرفة الطعام تبدو أصوات أدوات المائدة، إنهم يأكلون بنهم، تسمع والدتها من بعيد تأمرها بتغيير ملابسها والقدوم للغداء. يا لبراءة الغافل... أشفقت أن تروعهم... فمعرفتهم أكثر ضجة من سكونها وصمتها. دخلت غرفتها واغتسلت كالعادة ورجعت إليهم... كانت وجبتها يومها مزدانة بالدم معفرة برائحته. بعد ليلة مؤرقة، بائسة، طالعتها الصحف بموته وأن الجريمة غامضة ولم يحصل المحققون على أي دليل يدين أحداً. أراحها ذلك كثيرا. بعد مدة قرأت أن القضية دونت ضد مجهول، ضد شخص لم يتوقع أحدهم أن يكون من طالبات المدرسة البريئات الهشّات، فضلاً على أن يشك بها، بفتاة ضئيلة الحجم تحمل وجه الملائكة وهدوءها. ها هو الماء الرائق البلوري، البارد، ككل يوم يهبط على وجنتيها وعينيها وجسدها كله لعله يغسل كل ما رآه... لينسى كل ما أحس أو ليغفل عن ما تجسد أمامه. تتكور في زاوية الحمام وتتكئ على جداره وتجهش في البكاء، بكاؤها الدائم الصامت متعلق بالانسلاخ والتطهر أكثر مما هو يتمنى التوبة أو النسيان. وانتصر سرها الكبير في أن يبقى محفوراً، محفوظاً في صدرها الصغير، مهزوماً في شفتيها، مغتالاً على ورقتها. لم تعد تفهم الشعر وتستعذب الطرب أو تحفل بقطتها وأولادها الخمسة أو تجفل من اللص الذي سطا على بيت جارتهم أو يسعدها ذلك العريس الذي تقدم منها فتركته كالمعلق حتى تركها. استحالت إلى جرح كبير ومفتوح يلتهم التفاصيل الصغيرة التي تنسج حياة الإنسان ليستمر قوياً وقادراً على البقاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©