الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن الزقّاق البلنسي.. الشاعر الظليم

ابن الزقّاق البلنسي.. الشاعر الظليم
15 يناير 2014 21:47
لم أكن أتوقع قبل البدء بهذه السلسلة التي بدأت قبل حوالي عام، أن أكتشف هذه الكنوز من التراث الشعري والتي علاها الغبار، وكاد يمحو مداد حروفها الزمن. حتى عندما وصلت إلى شعراء الأندلس، توقعت أن أتوقف أمام خمسة شعراء أو عشرة على أكثر تقدير، ولكنني وجدت نفسي أسيراً لعشرات الشعراء الذين تركوا بصمات لا تمحى في ديوان العرب، وها أنا من جديد أطرق باب شاعر آخر من شعراء الأندلس، له اسم بدا لي غريباً وهو ابن الزقاق البلنسي.. وقد اكتسب والده هذا اللقب لأنه كان تاجراً يبيع الزقاق، والزق هو وعاء من جلد توضع فيه السوائل. ما جعلني أتوقف على باب هذا الشاعر أمران، الأول رقة شعره وقربه من شعر عصرنا.. والثاني أنه مات وهو في ريعان الشباب، ولم يزد عمره على أربعين عاماً. أصله وفصله اسمه الحقيقي، علي بن عطية الله بن مطرف بن سلمة اللخمي، وكنيته أبوالحسن.. ولكن لم يعرف هذا الرجل إلا بلقب أبيه (ابن الزقاق البلنسي نسبة إلى بلنسية في الأندلس). نقرع باب ابن الزقاق وندخل كالعادة دون شعور بالحرج. ?السلام عليكم يا علي بن عطية الله بن مطرف بن سلمة اللخمي.. ?? ولماذا لا تختصر وتقول ابن الزقاق؟ ? ألا يضايقك ذلك. ?? هذا هو الاسم الذي عرفت به حيّاً. ? السلام عليك يا ابن الزقاق. ?? وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ? في أي عام ولدت؟ ?? في عام 490 هجرية، هذا على وجه التقريب لا التحديد. ? كيف كانت بدايتك يا أبا الحسن ابن الزقاق البلنسي؟ ?? كانت بداية صعبة وحزينة، والدي رغم عمله في بيع الزقاق ومؤذن في مسجد حينا في بلنسية لم يكن قادراً على توفير متطلباتنا.. اتجهت منذ طفولتي إلى العلم والأدب.. كنت أسهر الليل في القراءة والكتابة.. ولما كان يراني ساهراً يقول: يا ولدي نحن فقراء.. ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه. ? إلى هذه الدرجة يا أبا الحسن؟! ?? نعم وأكثر.. ولكنني عندما نظمت أول قصيدة لي في أبي بكر بن عبدالعزيز صاحب بلنسية.. وأعجب بها.. كافأني بثلاثمائة دينار حملتها إلى والدي في حانوته، وكان منشغلاً بحرفته في صنع الزقاق، فوضعتها في حجره قائلاً: يا أبي.. خذ هذه المكافأة.. فاشترِ بها زيتاً. ? لا شك أنك كافحت لتصل إلى ما وصلت إليه، ولتودع الفقر. ?? ظل الفقر يلاحقني طول حياتي. ? لماذا يا أبا الحسن.. ألم تمارس مدح الملوك ورؤساء الطوائف؟ ?? حاولت ألا أفعل.. كنت أربأ بشعري أن يصول ويجول في ميادين النفاق. أسف ? أتنكر قصائد المديح التي نظمتها وما أكثرها؟ ?? لا.. لا أنكرها.. ولكنني لا أخفي أسفي على نظمها.. فلم أجنِ من ورائها إلا تهمة النفاق والمراءاة. ? كنت معذوراً.. أردت أن تعيش وأن تعين والدك. ?? ولكن الشاعر الحقيقي ينأى بشعره عن مدح من لا يستحق. ?لم توفر أولئك الممدوحين عندما ظهرت لك حقيقتهم.. وقرأنا هجاءك لهم. ?? هذا صحيح. ?منهم يحيى رئيس المشرق.. الذي كان هجاؤك له لاذعاً.. ولكن.. ?? أعرف ما تريد أن تقوله.. كنت قد مدحت ذلك الرجل، وهو نفسه يحيى بن غانية. ? تمدحه وتهجوه! ?? ما حدث معي حدث لأعظم شعراء العرب، وهو أبوالطيب المتنبي، لقد مدح كافوراً الأخشيدي بقصائد رائعة ثم انقلب عليه وهجاه هجاءً خالداً. ? وهل هناك أبشع من قوله: لا يقبض الموتُ نفساً في نفوسِهمُ إلا وفي يده من نتنها عودُ ?? إذن لا تلمني يا بني.. نحن نعيش وكل يوم نعيش فيه نكتشف الحقائق واحدة بعد الأخرى. ?على يد من تتلمذت يا ابن الزقاق البلنسي.. آسف يا علي يا أبا الحسن؟ ?? أستاذي ومعلمي الأول هو أبو محمد بن السيد البطليوسي، العالم اللغوي الشهير. ? وكيف كان ابن السيد؟ ?? كان رحمه الله حسن التعليم، جيد التلقين. ? توفي ابن السيد وأنت في عمر يزيد عن ثلاثين سنة.. ومع ذلك لم نجد في شعرك الذي وصلنا أية قصيدة رثاء له. ? ومن يمكن أن يزعم أن كل ما نظمته من شعر قد وصل إليكم؟ ? ولكن ما دور خالك ابن خفاجة في ثقافتك وعلمك؟ ?? كان خالي رحمه الله هو الأستاذ الثاني لي.. ? وقد عاش بعدك عمراً طويلاً.. ولكن لم نجد له قصيدة رثاء بابن أخته الذي كان يحبه ويرعاه.. بماذا تفسر ذلك؟ ?? إذا كانت الأندلس كلُّها ضاعت من أيدي العرب والمسلمين أن تضيع قصائد شعرائها. ?والدك عاصر حكم الملك المعتمد بن عباد على إشبيلية؟ ?? بل وعانى من ذلك كثيراً، فهو لخمي مثله.. وهنا قرابة بين عائلتي وعائلة المعتمد بن عبّاد.. ولكن لم يستفد والدي شيئاً من هذه القرابة.. فقد عاش في عصره فقيراً ولاحقه المرابطون بعد أسر المعتمد مما جعله يترك إشبيلية ويتجه إلى بلنسية. ?وهذا ما أكده لنا المراكشي وابن سعيد.. اتفق الاثنان على أن أباك كان ينتمي إلى بني عبّاد بقرابة غير محددة. أيهمك هذا الأمر يا أبا الحسن؟ ?? لا أخفي عنك أنني كنت أشعر دائماً بالظلم.. أنا لم آخذ حقي من التكريم رغم أصالة المحتد وعراقة الانتماء وروعة الإبداع. ? الحزن يطل من معظم قصائدك.. حتى الغزلية منها؟ ?? الحزن هو أحد أهم الموحيات للشعر.. ? حزنت على وفاة أخيك وهو في ريعان الصبا..؟ ?? كما حزنت على وفاة زوجتي وهي في عمر الزهور. ? هل نسمع شيئاً مما قلته في رثاء أخيك حسن.. ?? أقول: على حسنٍ أنت دموعيَ حرةً ومن بعض ما أُفني العزا والتجلّدُ سأبكيه ما حج الحجيج وما دعا هوديلاً على الأيك الحمام المغرّدُ ? كان عزيزاً عليك؟ ?? جداً.. ? ذكرتني بالخنساء التي عاشت حياتها كلّها ترثي أخاها صخراً ?? حينما يكون الأخ كصخر للخنساء وكحسن لي.. فالناجعة كبيرة. ? كنت صادقاً في ذلك الرثاء.. ولذلك جاءت القصيدة رائعة رغم طولها.. ?? قلت في أخي حسن عدة قصائد.. ولم أنسه طيلة الأيام التي عشتها بعده. ? التجارب القاسية هي التي تصنع الشعر الجيد. ?? لأن الشاعر الذي يعيش المأساة لا يتكلف ولا يتصنع إنه يسجل فقط مواجعه وأنينه وبكاءه.. ?قست عليك صروف الدهر.. عانيت الفقر صغيراً وفقدت أخاك كبيراً.. وفجعت بأحب الناس إليك أيضاً.. زوجتك.. ??كان فقدها رهيباً.. لم أصدق أنها رحلت.. ولا أخفيك بكيت كثيراً. ?وضح ذلك في رثائك لها.. ماذا كان اسمها يا أبا إسحق ؟ ?? كان اسمها درّة.. ? وفقدت درتك؟ ?? لماذا تعيدني إلى أقسى تجاربي في الحياة. ? لأنني أود أن أختتم لقائي بك اليوم بقصيدة الرثاء هذه؟ ?? ألا تعفيني من ذلك؟ ? أريد أن أسجل.. أن أجمل الشعر أصدقه.. لا أكذبه. ?? حسناً.. استمع إذن. ?تفضل يابن الزقاق البلنسي.. تفضل يا أبا إسحق.. قلت: لمغناكِ (1) سحَّ (2) المزنُ (3) أدمَع باكِ ورجَّعَتِ الورقاءُ أنَّةَ شاكِ وشقَّ وميض البرق ثوباً من الدجى كأن لم يكن يُجلى بضوء سناكِ أظاعنةٌ (4) والحزن ليس بظاعنٍ لقد أوحش الأيامَ يومُ نواكِ نوي لا يُشدُّ السَفْرُ راحلةً لها ولا يشتكيها العيسُ ليلَ سُراكِ ولكنها تطوي المحاسن في الثرى فيا حسنَ ما يُطوى عليهِ ثراكِ وتُشعَرْ بأساً منك حران هاتفاً لعلك من بعد النوى وعساكِ وتورثُ شمسَ الدجى أُختكِ لوعةً بفقدكِ والبدرَ المنير أخاكِ وتعلمنا أن المصائبَ جمّةٌ وأن مدانا في المقام مداكِ وأن الشبابَ الغضَّ والصونَ والنهى طوى الكلَّ منها الحين (5) حين طواكِ غدا الدهر من مرّ الحوادث كالحاً ولم أدرِ أن الدهرَ بعضُ عِداكِ عجبت له أنّى رماك بصرفِهِ ولم يغش عينيه شعاعُ سناكِ فيا درُّ إن أمسيت (6) عطلاً فطالما غدا الدرُّ والياقوتُ بعض حُلاكِ ويا درُّ ما للبيت أظلم كسرُهُ تُراكِ تيممَّتِ الترابَ تُراكِ ويا زهرة أذوى الحِمامُ رياضها لقد فَجَعَتْ كفُّ الحِمامِ رُباكِ معاني الكلمات: 1 - المغني وجمعها مغاني: المنزل. 2 - سح: صبَّ 3 - المزن: السحاب الذي يحمل الماء. 4 - ظاعن: راحل. 5 - الحين: الهلاك.. 6 - العطل: المرأة العطل التي لا تلبس الحلي. المراجع: 1 - أطروحة ماجستير عن ابن الزقاق: عفيفة محمود ديراني. 2 - ديوان ابن الزقاق البلنسي: تحقيق عفيفة محمود ديراني. 3 - ويكيبيديا الموسوعة الحرّة. 4 - لسان العرب: ابن منظور.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©